خلال ستة أشهر (من آذار 2014 حتى أيلول 2014) أصدرت محكمة المطبوعات 40 حكماً يستهدف وسائل إعلامية وصحافيين، غالبية هذه الأحكام تتعلق بجرائم قدح وذم. 37 حكماً من أصل 40 ربحها المدّعون، الذين بمعظمهم مسؤولون سياسيون، فيما أعلنت المحكمة، التي أوجدت لحماية الحرية الإعلامية، براءة 3 مدّعى عليهم فقط. وخلال هذه الأشهر الستة رُفعت أيضاً 36 دعوى لا يُتوقّع أن تكون الأحكام بشأنها مختلفة عمّا سبق.
هكذا إذاً تظهر محكمة المطبوعات نشطة جداً في إدانة الصحافيين عوض حمايتهم والدفاع عن الحرية الإعلامية التي تسعى السلطة السياسية بشكل دائم إلى تقييدها، وإلى اليوم يبدو أنها تنجح. لا يقتصر الأمر على النجاح في الحد من الحريات الإعلامية، بل أصبحت محكمة المطبوعات مصدر كسب للعديد من السياسيين الذين يجنون منها الملايين: يكفي أن يتهم صحافي أحد المسؤولين بالفساد، السرقة، الإجرام… حتى يدفع مبلغ 3 ملايين ليرة كحد أدنى. الكلام هنا ليس في سياق المبالغة أو المزاح، فالمبالغ التي حكمت بها محكمة المطبوعات (غرامات وتعويضات شخصية) لمصلحة المدّعين تثبت ذلك. يتصدّر النائب ميشال عون لائحة السياسيين الأكثر رفعاً للدعاوى والأكثر جنياً للأموال. فالرجل نجح خلال ستة أشهر في الحصول على 9 أحكام، 8 منها ضد جريدة المستقبل، وصلت قيمة المبالغ التي حكمت بها المحكمة في الدعاوى التي رفعها إلى 167 مليون ليرة، منها 135 مليون ليرة من جريدة المستقبل وحدها. أمّا سمير جعجع وحزب «القوات اللبنانية» فيحلّان بالمرتبة الثانية، إذ أصدرت المحكمة 5 أحكام كانا هما المدعيّين فيها، وتمكّنا من ربح 4 دعاوى فيما خسرا واحدة. حصيلة الأحكام الأربعة هي 48 مليون ليرة، منها 19 مليون ليرة استطاعا تحصيلها من ناصر قنديل في دعويين ضده.
167 مليون ليرة هي
قيمة المبالغ التي حكمت
بها المحكمة لعون
ربح جميل السيد 3 دعاوى بقيمة 29 مليون ليرة، كذلك أصدرت المحكمة أحكاماً أخرى لمصلحة النائب عقاب صقر، النائب فؤاد السنيورة، مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «حزب الله» وفيق صفا وغيرهم. معظم هذه المبالغ لم يتم تسديدها نظراً إلى انتقال الكثير من الدعاوى إلى مرحلة الاستئناف، ما يؤدي إلى تعديل الأحكام، إلا أن هذا لا يُلغي أن المبالغ التي تحددها المحكمة تشكّل عامل ضغط كبير على الصحافيين. التعويضات التي يطلبها المدّعون بـ»وقاحة» تبدأ من 20 مليون ليرة يطلبها ميشال عون بشكل دائم بسبب «الضرر» الذي سبّبته له الكلمات «الجارحة» للصحافيين، وتصل إلى 10 مليارات ليرة وهو المبلغ الذي اعتاد سمير جعجع طلبه عند توصيفه بالـ»مجرم» والـ»القاتل». أمّا جميل السيد فيتراوح التعويض الذي يطلبه بين 50 و100 مليون ليرة. حتّى فؤاد السنيورة طلب مؤخراً من الصحافية رشا أبو زكي تعويضاً بقيمة 100 مليون ليرة لاتهامها له بتصفير الحسابات والتلاعب بأرقام الموازنة، مستندةً بذلك إلى وثائق صادرة عن ديوان المحاسبة!
في 29 آب كتب مدير مكتب جريدة «السفير» في طرابلس الزميل غسان ريفي مقالاً بعنوان «عندما يسطو الدرك على أرزاق الناس». انتقد ريفي ممارسات بعض عناصر قوى الأمن الداخلي الذين صادروا العنب، بطريقة مخالفة للقانون، من أحد النازحين السوريين عندما كان يبيعه على عربة عند إشارة عزمي في طرابلس. تم تداول صور عملية «المصادرة» على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واسع وأظهر شهوداً أكدوا ما نقله ريفي. لم تنزعج المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي من عملية المصادرة المخالفة التي حصلت، لكن أزعجها تناول ريفي للموضوع، فهو ينتقد المؤسسة الأمنية و»يمسّ» بهيبتها، ما يعني وجوب ملاحقته. هكذا، اتخذت المديرية صفة الادّعاء أمام القضاء المختص ضد ريفي بجرم التشهير والافتراء. تحركت النيابة العامة التمييزية واستمع المحامي العام التمييزي القاضي شربل أبو سمرا في 25 أيلول إلى ريفي الذي نقل تجاوزات قوى الأمن ومخالفاتها بمهنية وموضوعية بعيداً عن أي قدح أو ذم أو تشهير، وأكّد أنه عرض وقائع موثقة بالصور وإفادات الشهود، فتقرّر تأجيل القضية إلى اليوم للاستماع إلى أقوال هؤلاء الشهود. أمام النيابة العامة التمييزية خياران بعد انتهاء عمليات الاستماع: إمّا أن تقرر حفظ الشكوى، وإمّا أن تدّعي على ريفي بجرم القدح والذم والتشهير فتُحيل الملف على محكمة المطبوعات.
المضحك المبكي هو أن الصحافيين اليوم باتوا يعلمون مسبقاً أن المثول أمام محكمة المطبوعات، التي خُصّصت لحمايتهم، يعني حتماً خسارة القضية. فبناءً على سلسلة الأحكام الصادرة، واجتهادات رئيس محكمة المطبوعات القاضي روكز رزق، واستمراره في معالجة القضايا من زاوية البحث عن عبارات القدح والذم والتشهير بمعزل عن أساس القضية وصحة المعلومات، يمكن القول (في حال إحالة الملف على محكمة المطبوعات) إن الحكم سيتجه حتماً إلى إدانة ريفي. هذا الاستنتاج يؤكّده السجل الحافل لهذه المحكمة في الآونة الأخيرة. المبدأ الذي يرتكز عليه القاضي رزق واضح: الصحافي متهم - بمعزل عن صحّة المعلومات التي أوردها - حتّى يثبت براءته. وإثبات البراءة لا يكون بإبراز الوثائق التي استند إليها، إذ إنه حتّى لو أظهر جميع الوثائق فمعظم نماذج الأحكام الصادرة أكّدت أن ذلك لا يشكّل أي دليل للتبرئة، فالصحافي اتهم الفاسد بالفساد! يتحرك القضاء فوراً، يدين الصحافي ويُبرّئ الفاسد. يتغاضى رزق في أحكامه عن المادة 387 من قانون العقوبات التي «تبرّئ الذم الموجه ضد قيّم على خدمة عامة في ما يتصل بهذه الخدمة في حال ثبوت صحة الأفعال موضوع الذم». مسار المحكمة يعزّز عملية القمع التي تمارسها المؤسسات الأمنية والسياسيين وأصحاب الرساميل للتضييق على الصحافيين، وهو ما يظهر في عدد الدعاوى الموجودة لدى المحكمة. يكفي فقط أن «الأخبار» منذ الـ2006 إلى اليوم عليها أكثر من 85 دعوى، معظمها دعاوى قدح وذم وتحقير وخبر كاذب، والأحكام الجائرة الصادرة بهذه الدعاوى دفعت الجريدة إلى مطالبة رزق بالتنحّي عن القضايا التي تخصّها، ولكنه لم يستجب.