صدور «نجمة» (١٩٥٦) لم يكن فقط مفترقاً حاسماً في مسار الأدب المغاربي، بل كرّس صاحبها رمزاً للكاتب المقاوم. صورة لازمت كاتب ياسين (١٩٢٩ - ١٩٨٩)، على امتداد حياة تميّزت بالتمرّد والقطيعة. واليوم، بعد مرور ربع قرن على رحيله، ما زال صاحب «نجمة» رمزاً للمثقّف الإشكالي الذي لم يهادن، وواجه المستعمر بالقسوة نفسها التي خاطب بها مجتمعاً بطريركياً يرزح تحت نير المحافظة والرجعيّة، والقمع والاستلاب. «نجمة» المولودة في المنفى الفرنسي حيث عاش ياسين كادحاً ومقاوماً، سبقتها مجموعات شعريّة مثل «قصائد إلى الجزائر المضطهدة» (1948)، ومسرحيّة «الجثّة المطوّقة» التي كتبها بعيد لقائه المعلّم الألماني برتولد بريخت في باريس ١٩٥٥.
لكنّها ستؤسس لمزاج أدبي يتقاطع عنده الخاص والعام، لتصبح الحبيبة الصعبة المنال في مجتمع ذكوري جائر، كناية عن الوطن الرازح تحت نير الاحتلال. الرواية التي تجمع في بنيتها بين مستويات سردية وأنواع أدبيّة مختلفة، صارت العمل المؤسس للرواية الجزائرية الحديثة (بالفرنسيّة)، رغم أن محمد ديب سبقه في «البيت الكبير» و«الحريق». تلك الحركة توصل اليوم، أجيالاً بعد مولود فرعون ومالك حداد ورشيد ميموني… كاتباً جزائريّاً شاباً هو كمال داود، إلى المرحلة الأخيرة من «غونكور».
عرف ياسين السجن في السادسة عشرة بعد مشاركته في انتفاضة سطيف ضد الاحتلال الفرنسي، ربيع ١٩٤٥. هذا الفعل التأسيسي وسم مسيرته، وطبع وعيه، ودفعه من تمرّد إلى آخر. في عام ١٩٤٧ التحق بالحزب الشيوعي، وبعد عام هاجر إلى عقر دار المستعمر، ليراسل جريدة ألبير كامو «الجزائر الجمهوريّة». في سنواته الأخيرة، كان قاسياً على صاحب «الغريب»، واعتبره غير معنيّ بالجزائر وشعبها. كان كاتب ياسين قاسياً مع الجميع. مع فرنسا التي قارعها بلغتها التي اعتبرها «غنيمة حرب». أعلن القطيعة مع الصالونات الباريسيّة في ١٩٧٠، وعاد إلى الجزائر ليؤسس فرقة «سيدي بلعبّاس»، ويكتب لها مسرحيّات بالعاميّة الجزائريّة. وأعلن القطيعة مع حزب «الجبهة الوطنيّة» الحاكم، منتقدّاً فشله في بناء دولة ما بعد الاستقلال. أعلن القطيعة مع الفكر المهيمن، ناقداً التأثير السلبي للدين، ومهاجماً اللغة العربيّة. كان في ذاك يتمرّد على لغة السلطة ويشهر في وجهها لغة العامة، حاملة أوجاع الناس وهمومهم.
في ذكرى رحيله الـ 25، يبدو «نبيّ العصيان» (كما لقّبه أحميدة عيّاشي في سيرة خصّه بها قبل ٣ سنوات)، أيقونة يستنجد بها كل مقاوم، وكل متمرّد على الظلم، وكل مثقف عضوي. يبقى لنا تراثه المسرحي خصوصاً: «الرجل ذو الصندل الكاوتشوك»، «فلسطين المخدوعة»، «المضلّع المنجّم»،«محمد خذ حقيبتك»، «غبرة لفهامة»، «حرب الألفي عام»… تبقى لنا سيرته التي تختصر حكاية جيله الإشكاليّة مع الإرث الاستعماري وعلاقته الملتبسة باللغة الأم. تبقى لنا تلك الراديكاليّة التي ازدادت حدّة في سنواته الأخيرة. رحل ياسين بعد عام على انتفاضة أكتوبر، هو الذي كان يبشّر بها في كل ما قال وكتب. هو الذي عاش، بعد عودته الى بلاده، على هامش السلطة والثقافة الرسميّة، وبقي «يحمل حقيبته» على ظهره، ويجول مع ممثليه في جهات الجزائر، محرضين على الثورة، مبشّرين بمستقبل أفضل.