رباعيات عمر الخيّام مجدّداً! لكن متى توقّف الجدل حول الرباعيات وصاحبها؟ الحيرة بين صورة الفيلسوف والعالم والمتصوّف من جهةٍ، والشاعر الشهواني المتهتك، من جهةٍ ثانية، وضعت هذه الأشعار فوق الموقد على الدوام، لتشعل نيران لغات كثيرة، و»خيانات» لا تنتهي، منذ أن وقعت نسخة مصوّرة من الرباعيات بين يدي الشاعر الانكليزي إدوارد فيتزجيرالد كهدية نفيسة من صديقه إدوارد كارل، حصل عليها من مكتبة كلكتا في الهند. قام فيتز جيرالد بترجمتها تحت عنوان «مئة رباعية ورباعية» (1859)، تيمّناً بكتاب «ألف ليلة وليلة»، مخاطباً بذلك المخيّلة الأوروبية الاستشراقية حيال المكبوت الفارسي. وإذا بالرباعيات الجوّالة تفوق شهرة ملحمة «الشاهنامة» للفردوسي.
من جهته، يرصد محمد مظلوم في كتابه الجديد «رباعيات الخيّام: ثلاث ترجمات عراقية رائدة» (دار الجمل) رحلة الرباعيات عربياً، بدءاً من ترجمة عيسى اسكندر المعلوف لستٍ منها، في مجلة «الهلال» المصرية (1910)، مروراً بترجمة وديع البستاني، ونسخة أحمد رامي الأكثر شهرة، بالإضافة إلى نحو 60 ترجمة مختلفة، خلال 100 عام.
يتوقّف الشاعر والناقد العراقي عند ثلاث ترجمات عراقية للرباعيات حملت تواقيع: أحمد الصرّاف (1921)، جميل صدقي الزهاوي (1928) وأحمد الصافي النجفي (1931)، مقارناً بين الترجمات الثلاث، واختلاف مصادرها، من مترجمٍ إلى آخر، «ولهذا يمكن القول إن لكلّ من مترجمي تلك الرباعيات «خيّامه» الذي يتوافق مع معتقده». فيما يجدها بعضهم مغرقة في الصوفية والزهد، يشغف آخرون بنبرتها الشهوانية، وروحها الإلحادية المتمرّدة، وخصوصاً الخمريات منها. وفقاً لمحرر الكتاب، روح الرباعيات تنطوي على أبيقورية صريحة تتواءم مع حياة الخيّام «وشطحاته الخليعة»، قبل أن تختلط برباعيات منحولة، كمحصلة لطول تجوال هذه الرباعيات شفاهياً قبل تدوينها. حتى إن عباس محمود العقاد نسب بيتاً من شعر حافظ الشيرازي إلى الخيّام،
روح الرباعيات تنطوي على أبيقورية صريحة

فامتزج الأصيل بالدخيل، ليصل عددها إلى نحو 1200 رباعية، فيما يكتفي الصرّاف بـ150 رباعية، معتبراً أن البقية دخيلة. وتالياً تصعب ملاحقة النص الأصلي، عدا معضلة دقة الترجمة، بين مترجمٍ وآخر. وها هو المستشرق الروسي فالنتين زيوفسكي يثبت أن هناك 82 رباعية ليست للخيّام، بينما يرفع المستشرق الدانماركي آرثر كريستنسن العدد إلى 108، في إشارة إضافية إلى صعوبة فرز رباعيات الخيّام عن الرباعيات المنتحلة. وهذا ما انعكس على شخصية الخيّام نفسها. بدت شخصية هلامية «فيظهر شاعراً دهرياً مرّةً، وزاهداً مرّة أخرى، لذائذياً هنا، وتشاؤمياً هناك، باطنياً في هذه الترجمة، ومتحلّلاً، في ترجمةٍ أخرى». ورغم أن الخيّام لم يبتكر الرباعية في الشعر الفارسي، إلا أن حكايته مع حبيبته ياسمين وموتها المأسوي، أضفت بعداً خاصاً على رباعياته، في المحتوى. أما الشكل « الدوبيت» فقد كان شائعاً قبله، إذ أسسّ له أبو جعفر الرودكي ضوابط شكلية، هي أقرب إلى «بيت القصيد» في الشعر العربي، و»الهايكو» الياباني.
هذا الحضور المكثّف لرباعيات الخيّام في اللغة العربية، يوضّح محمد مظلوم، ألقى بظلاله على الشعر العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين، سواء لجهة هندسة القصيدة، أو لجهة تكثيف المعنى والاقتصاد في التعبير. وهذا ما نلمحه لدى شعراء «مجلة أبولو»، مثل إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأحمد زكي أبو شادي. أما شخصية الخيّام، فاستدعيت عربياً في نصوصٍ كثيرة، كما فعل البياتي في ديوانه «محاكمة في نيسابور»، أو أمين معلوف في روايته «سمرقند»، من دون أن نهمل التأثير المضاد للمعرّي على الفلسفة الشعرية للخيّام. من ضفةٍ أخرى سنقع على اختلافات كثيرة في النسخ العربية للرباعيات، في ما يخصّ الإيقاع والبحور الشعرية، أو الترجمات النثرية، فقد لجأ الزهاوي إلى ترجمتين، الأولى حرّة، والثانية موزونة، منوّعاً في البحور الشعرية، فيما اكتفى أحمد رامي بالبحر السريع، وذهب الصرّاف إلى الترجمة الحرّة. على أن محرّر الكتاب يميّز ترجمة الصافي النجفي عن سواها، نظراً لرصانتها الجمالية، واطلاعه العميق على روافد الشعر الفارسي، وأصوله الفنية. تفرّغ ثلاث سنوات لترجمة الرباعيات، حتى إن أحد الأدباء الفرس خاطب النجفي قائلاً «أكاد أعتقد أنّ الخيّام نظم رباعياته بالعربية والفارسية معاً، وقد فُقدَ العربي منها فتعثّرتَ عليه وانتحلته لنفسك». واللافت هنا أن الطبعة الأولى من رباعيات الصافي، طُبعت في «مطبعة التوفيق» في دمشق (1931)، بينما يقسّم الزهاوي الرباعيات تبعاً لموضوعاتها (في الخمرة، في التذمّر، في العظة والأخلاق، في الحكمة والشك، في العشق، في ما خاطب به الله، في مطالب شتّى). على الأرجح، لن يتوقف السجال حول أكثر الشخصيات الشرقية قلقاً وحيرةً وتمرّداً، فقد يكتشف آخرون ترجمات مجهولة للرباعيات، لا تزال طيّ الأدراج، من يدري؟