تحوّلت ورشة عمل الحزب الشيوعي اللبناني الى مهرجان خطابي لهيئة التنسيق النقابية. استهل حنا غريب، رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي وعضو المكتب السياسي في الحزب، ورشة العمل بعرض ورقة على المشاركين من أجل مناقشتها. تضمنت أربعة أقسام: الأزمات الحادة اقتصادياً واجتماعياً؛ الحركة النقابية وأزمتها؛ رؤية جديدة لبناء حركة نقابية ديموقراطية وممثلة؛ وأخيراً، محاور برنامج المواجهة والنضالات.
لم يحمل توصيف الورقة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية أي جديد. تحدث غريب عن تراجع الصناعة والزراعة، وتضخم الريوع، وإمعان الحكومات المتعاقبة وأصحاب العمل بالضغط على الأجور وخصخصة القطاع العام. وتطرق الى تنوع فئات العمال، وخاصة مع دخول الشباب الى قطاعات جديدة يغيب عنها التنظيم النقابي، علماً بأن التنظيم النقابي شبه غائب عن أغلب القطاعات في لبنان. اللافت أن الورقة لم تتطرق الى العمال المهاجرين إلا من باب منافستهم للعمالة اللبنانية، فلم تطرح تنظيمهم نقابياً، على الرغم من أنهم يشكلون نحو 30% من القوى العاملة في لبنان.
إذا كانت تجربة هيئة التنسيق النقابية ناجحة، فلماذا يطرح غريب تحويل روابطها الى نقابات

بعدها انتقل غريب الى تشخيص أزمة الحركة النقابية. أرجع أزمة الحركة في القطاع الخاص الى ما سماه «الأزمة الحادة في قيادة الاتحاد العمالي العام»، وحصرها بعاملين أساسيين: الأول، تدخل السلطة والأحزاب السياسية والطائفية، كأن العلة الوحيدة هي قيادته وليس في بنيته اللاديموقراطية وبرنامجه وأولوياته التاريخية. وتجنبت الورقة الحديث عن دور الحزب الشيوعي اللبناني ونقاباته في تأسيس الاتحاد العمالي العام على أسس غير ديموقراطية وعدم نضاله من أجل حرية التنظيم النقابي. أما العامل الثاني، فيكمن في السلطة التي عطلت قيام هيكلية نقابية حديثة، بمعنى أن الورقة أقرّت بدور هذه السلطة في سن قوانين تنظم اللوائح الداخلية للنقابات، عوضاً عن التأكيد أن للعمال الحرية الكاملة في تقرير هيكليتهم النقابية بعيداً عن أي تدخل.
وقع غريب في فخ تبجيل تجربة هيئة التنسيق النقابية، مركّزاً على وحدتها وقدرتها على تعبئة الناس، متناسياً دور المكونات الحزبية في الهيئة التي ساهمت في التعبئة من أجل تناتش الصفقات في ما بينها في إطار المحاصصة والتسويات الطائفية. لم يشر الى إخفاقات الهيئة، وخاصة في معركتها الأخيرة، ولم يجر أي تقويم لتجربتها ولا بنيتها، ما يجعل التساؤل مشروعاً: إذا كانت تجربة هيئة التنسيق النقابية ناجحة، فلماذا يطرح غريب تحويل روابطها الى نقابات وتحويل الهيئة الى اتحاد عام؟ يبدو من تحليل غريب أن الإنجاز الوحيد والأكبر هو أن الهيئة حافظت على وحدتها، وكأن الوحدة هي الهدف، حتى لو كانت على أسس المحاصصة الحزبية والطائفية وعلى حساب تأسيس حركة وبرنامج نقابيين وطنيين جديين يستجيبان لطموح جميع العمال في لبنان، وحتى لو كلفت هذه الوحدة الوقوع في فخ الفئوية وعدم الذهاب أبعد من مطلب تصحيح الأجور، على الرغم من كل الشعارات الوطنية التي طرحتها (كالتغطية الصحية الشاملة وإصلاح النظام الضريبي)، إذ تبين أنها للتعبئة فقط وليس للعمل البرنامجي الجاد. غاب عن غريب أن هذه الوحدة كلفت الهيئة الرضوخ لمشروع سلسلة مجزّأة ومموّلة من الضرائب على الناس وبعيدة كل البعد عن مطالبها.
عدا الشعارات العامة، طرحت الورقة ثلاث نقاط أساسية: أولاً، إقرار الحق بالتنظيم النقابي في القطاع العام على قاعدة «التعددية ضمن الوحدة»، وهو ما يتعارض كلياً مع مبدأ حرية التنظيم النقابي، ويدلّ على أن الحزب الشيوعي لم يتعلم من التجارب السابقة ويحتفظ بمنطق يخيّر العمال بين الانتساب الى تنظيم وحيد أو العمل خارج الأطر النقابية. إذ لا يعقل أن يطرح الحزب الشيوعي اليوم إعادة إنتاج تجربة الاتحاد العمالي العام والاتحادات السلطوية التي تحرم العمال من حقهم في إنشاء منظماتهم النقابية من دون قيد أو شرط تحت شعار الوحدة التي أصبحت هدفاً بحد ذاته. ذهب غريب أبعد من ذلك بطرحه أن يكون الانتساب الى نقابات القطاع العام إلزامياً، ما يذكّر بتجربة اتحادات الأنظمة في بعض البلدان العربية التي فُرضت بالقوة على العمال. كما طرح تحويل الروابط الى نقابات والهيئة الى اتحاد للعاملين في القطاع العام، من دون تحديد سبل هذا التحويل: عبر إصدار قانون من مجلس النواب؟ أم عبر كسر القانون المجحف الذي يضع التنظيم النقابي العمّالي بيد السلطة؟ ودعا غريب الى تنظيم العمال في القطاع الخاص حيث توجد التكتلات العمالية، ولم يذكر إنشاء إطار نقابي وطني بديل للعمال في القطاع الخاص، ما يثير الحيرة: هل لا يزال الحزب الشيوعي يعتبر الاتحاد العمالي العام إطاراً ممكناً للعمل النقابي؟ وخاصة أن الورقة لم تذكر الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين، الذي كان من المؤسسين التاريخيين للحركة النقابية اللبنانية والإطار الأساسي الذي عمل من خلاله الحزب في النضالات النقابية، علماً بأن هذا الاتحاد انسحب من الاتحاد العمالي العام ودعا الى تأسيس مركز نقابي وطني ديموقراطي ومستقل.
كان لافتاً أن يعبّر رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين كاسترو عبدالله عن استيائه من تغييب الاتحاد الوطني من الورقة التي قدمها غريب، ما يعبر عن غياب التنسيق والتواصل بين مكونات الحزب النقابية، ويشكك بمدى جدية الحزب في عمله من أجل حركة نقابية جديدة على المستوى الوطني، في الوقت الذي يغيب فيه التصور لاستراتيجية نقابية داخل الحزب نفسه.
قال محفوض «إن معركة الهيئة ليست تعبيراً عن صراع طبقي»

تضمنت المداخلات بأغلبيتها مديحاً لتجربة هيئة التنسيق النقابية. ولكن اللافت أن نقيب المعلمين نعمه محفوض قال «إن معركة الهيئة ليست تعبيراً عن صراع طبقي»، كأنه خيّل له أنه على منصة برنامج حواري تلفزيوني يحاول أن يقنع الناس بتأييد تحركات هيئة التنسيق، وليس في ورشة عمل للحزب الشيوعي. استفاض في الحديث عن سلسلة الرتب والرواتب، وهو ما فعله محمود حيدر، رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة، ما يشير الى استمرار محدودية أفق قيادات هيئة التنسيق النقابية التي لم تستطع بعد تخطي فئوية مطالبها نحو برنامج وطني عمالي جامع. بالإضافة الى ذلك، طرح محمود حيدر خيارين للنقاش: إما تشكيل إطار نقابي بديل، أو دخول مكونات هيئة التنسيق النقابية بثقلها التمثيلي الى الاتحاد العمالي العام لقلب المعادلة. وبالرغم من أنه أعلن تأييده للأول، لكن مجرد طرح الخيار الثاني يعني أن بعض قيادات الهيئة لم تصل بعد الى خيار تأسيس حركة نقابية بديلة وديموقراطية، بل ما زالت تسعى الى الانتظام داخل الإطار النقابي اللاديموقراطي القائم من أجل إيجاد موقع وحصة في النظام الغنائمي.
أحد المشاركين دعا الى التخلي عن مبدأ الوحدة بأي ثمن، والتأكيد على حرية العمال بتشكيل نقاباتهم وعدم مصادرة قراراتهم، مشدداً على أن الحركة النقابية تقوم على تدعيم العمال وتزويدهم بالأدوات المناسبة من أجل النضال، لا أن تفرض عليهم التنظيمات النقابية. كما أنه شدد على أن يقوم الحزب الشيوعي بتقويم دوره في الماضي والحاضر من أجل استخلاص العبر، بدلاً من اعتبار أن الحركة النقابية بدأت مع قيام هيئة التنسيق النقابية.
انتهت الورشة الى تسطيح قضية أساسية. ففي الوقت الذي كان فيه متوقعاً من الحزب الشيوعي اللبناني القيام بمراجعة نقدية لتجربته الطويلة في المضمار النقابي من أجل تقديم تصور فعلي وجدي لحركة نقابية مستقلة وديموقراطية تقطع مع الممارسات النقابية الذيلية وتبني قوة العمال وتؤسس لتوازن اجتماعي فعلي، سقطت الورشة في الخطابية والشعارات التي لن تقدم للعمال أي أداة مفيدة في نضالهم من أجل حقوقهم الأساسية. وبدل أن تقدم الورشة بديلاً نقابياً ديموقراطياً، قدمت خطوطاً عريضة لإعادة إنتاج القائم، لكن بعناوين جديدة، فتمسكت بشعار الوحدة بأي ثمن، على غرار ما ينادي به الاتحاد العمالي العام، استمرت بإقصاء العمال المهاجرين عن برنامجها وأولوياتها، طرحت غياب النساء والشباب عن النقابات، من دون التطرق الى أولوياتهم وقضاياهم، وكرست مجدداً أولوية الهيكلية على حساب تمكين العمال ومدهم بالأدوات اللازمة لتنظيم أنفسهم والدفاع عن مصالحهم. والأخطر من ذلك، تعامل الحزب الشيوعي مع الموضوع بالتغني بتجربة هيئة التنسيق النقابية كمن يحاول أن يتجنب النظر في تاريخ نقابي طويل بإخفاقاته ونجاحاته ويتحاشى النقاش والتفكير الجدي بالطرق والبرامج المناسبة لإعادة الاعتبار الى قوى العمال وفعلهم في التغيير الاجتماعي الاقتصادي.