وقف الممثل السوري شادي مقرش لسنوات أمام الكاميرا، وجسّد أدواراً مختلفة حالفه النجاح في أغلبها. وهو يسير حتى الآن بخطى ثابتة نحو نجومية مستحقة. مع ذلك، يشعر نجم «سكر وسط» بأنّ الصلاحيات الممنوحة له كممثل ما عادت تكفيه، على اعتبار أنه ينفذ تعليمات قادة العمل، مع هامش ضئيل من الاجتهاد. هكذا، بدأ يصبو إلى مساحة أكبر من الحرية والإبداع عساه يكون عرّاب عمل فني كامل يشتغل عليه برؤيته البصرية. على هذه الحال، جرّب مقرش إنجاز مشاريع سينمائية قصيرة، ثم نال أخيراً منحة بسيطة من «المؤسسة العامة للسينما» ليخرج فيلمه الروائي «عناية مركّزة» (الصورة -كتابة رضوان طالب) الذي لعب بطولته: كامل نجمة، ويزن خليل، وبسام داود، ووسيم قزق...
في أولى تجاربه الإخراجية، قدّم مقرش مناورة واقعية على مدار 25 دقيقة نصب خلالها كاميراته في «مستشفى ابن النفيس» في دمشق، وراح يرصد بحذر أحداثاً يومية هاربة من براثن الحرب. تحوّلت اللغة السينمائية المكثفة إلى تيمة تنسجم مع أيام الحرب، خصوصاً في ذلك المكان، أي المستشفى الذي تحوّل مسرحاً تجتمع فيه مكونات الحرب، لكن على شكل مصابين. وقد إلتقط كاتب السيناريو الفكرة بعد ملاحقته يوميات المستشفى الذي يعمل ممرضاً فيه، وتدوينه ملاحظات حقيقية حصلت وتحصل كل يوم. يقدّم العمل رؤية سينمائية لمناوبة طبيبين سوريين لمدة 24 ساعة، سرعان ما يتضح أنّهما يختلفان في الانتماء أو التوجّهات السياسية حيال ما يحدث في بلدهما، فأحدهما يؤيد النظام، والآخر يؤيد المعارضة.
تفتتح الكاميرا مشهدها الأول على تداخل أصوات الرصاص المسموع، مع رنين المنبه الذي يوقظ الطبيب المعارض.
يقدّم رؤية لمناوبة طبيبين يختلفان في التوجّهات السياسية

وما إن يبدأ يومه بشكل اعتيادي، حتى يتسلّل التوتر إليه بسبب ما تشهده العاصمة من أجواء الحرب. بعد ذلك، يصل الطبيب مجتازاً الحواجز المنتشرة في الشوارع إلى المستشفى، ويستقبله زميله الذي يخالفه الرأي من دون أن يفسد الخلاف حياتهما في أنبل المهن التي تضعهما في مواجهة مع قناعتهما. عندما تقل سيارات الإسعاف جريحاً من الجيش السوري وآخر من «الجيش الحرّ»، تبدأ رحلة شاقة للحفاظ على حياتهما أو محاولة كل طبيب لإنهاء حياة المصاب المخالف لقناعاته، ثم التراجع في اللحظة الأخيرة.
في هذه الأثناء، تثبت الكاميرا على الطبيبين وهما يتناولان الغداء معاً، تليها فترات استراحة لكل منهما. نشاهد الأول وهو يتابع قنوات النظام، والثاني يترقب قنوات المعارضة. يصل الاثنان إلى النتيجة الحتمية التي اعتادا عليها، وهي موت الضحيتين ثم خروجهما من المستشفى بعد استنفاد السجائر والنظرات اليائسة. يفترقان كلٌّ في طريقه وسط معزوفة الرصاص والقذائف المعتادة. كأنّنا بهذا الشريط يريد القول ببساطة بأنّ البلاد بموالاتها ومعارضتها ذاهبة نحو الجحيم كنتيجة حتمية لهذه الحرب العبثية. لكنّ شيئاً ما ينقص هذه الواقعية الفنية والقصة الحقيقية وسط المفارقة التي تعتبر قوام الفيلم. يبدو واضحاً أنّ الفكرة لم تشبّع بالفعل الدرامي، فالسيناريو يحتمل المزيد من الأحداث. كان لا بد من ترصّد الكاميرا تفاصيل أخرى في حياة الطبيبين من خلال جولة إضافية لها في ممرات المستشفى الذي نقل منه ناشطون سوريون قصصاً خطيرة أثناء الأزمة كحالة التشفي من جثث المسلحين عندما تصل إلى براد الموتى وتراجع مهنة الطب لتصبح سبيلاً للانتقام عندما يصل إلى غرفة الإنعاش أحد أفراد «الجيش الحرّ» مثلاً.
يجيب مقرش عن تساؤلاتنا: «سمعت هذه الآراء ممن شاهدوا الفيلم، لكنني صوّرت على قدر المنحة الإنتاجية التي حصلت عليها وجرّبنا أن نكون حقيقيين إلى حدّ كبير». في كل الأحوال، يبشر الفيلم بولادة مخرج جديد يحمل إلى جانب مهنيته وثقافته طموحاً واندفاعاً يزيدان حالة الشغف نحو أعمال فنية أكثر عمقاً وأهمية.