تحوّلت الفقرة «ي» من مقدمة الدستور سيدة الأحكام في كل استحقاق تقبل عليه البلاد، في التكليف الذي يسبق تأليف الحكومة كما في التأليف، كما في وضع قانون انتخاب كما في إجراء الانتخابات النيابية العامة، وصولاً الى انتخاب رئيس الجمهورية. لم يعد في إمكان مجلس النواب الالتئام أيضاً في معزل عنها، ولا اتخاذ مجلس الوزراء أياً من قراراته الاساسية. منذ عام 2006 والفقرة «ي» سيف مصلت يوجب على الافرقاء الرئيسيين، السياسيين الممثلين الاوسع لطوائفهم، المشاركة في كل قرار او استحقاق وطني تفادياً لأي مجهول يتسبب به غياب احدهم عنه.

كانت السابقة في اولى حكومات الرئيس فؤاد السنيورة على اثر استقالة الوزراء الشيعة جميعاً منها، فأهمل رئيسها الاستقالة وعدّها تغيّباً عن الاجتماعات ليس الا. مذ ذاك منع رئيس مجلس النواب نبيه بري مثولها امام البرلمان، وقد فقدت جزءاً أساسياً من البنية الميثاقية التي نصّ عليها مرسوم تأليفها. لم تُقبل استقالة الوزراء الذين أصرّوا عليها، ولم يُعيّن سواهم، ولم تستقل الحكومة. فانهارت وانهار كل شيء من حولها. تكرّرت السابقة في الاستحقاق الرئاسي بعد أقل من سنة. غاب النواب الشيعة، فلم يلتئم المجلس لانتخاب الرئيس. ثم كرّت السبحة حتى الامس القريب. غاب النواب السنّة عن البرلمان عام 2013 فلم ينعقد، وغاب النواب الشيعة عن جلسات انتخاب الرئيس في الاشهر الستة المنصرمة فلم يُنتخب الخلف. الامر نفسه أدركه وضع قانون الانتخاب العام الماضي.
هكذا صعدت عبارة الميثاقية كي تمسي عموداً فقرياً لآلة الحكم: تعمل أو لا تعمل.
لم يكن الامر كذلك، ولم تؤخذ الفقرة «ي» في الاعتبار عندما أرغمت دمشق عام 1992 الافرقاء على خوض الانتخابات النيابية، وقاطعها المسيحيون وأخصّهم الموارنة الذين تجمعوا آنذاك ــ خلافاً لتفككهم اليوم ــ في فريق واحد: أحزاب الكتائب والقوات اللبنانية والوطنيين الاحرار والكتلة الوطنية وتيار العماد ميشال عون الى نواب وشخصيات مستقلة، وعلى رأسهم بكركي. تجاهلت سوريا والسلطة القائمة هذا التحفظ، وأجرتا انتخابات كشفت وطأة المقاطعة والمشاركة الهزيلة في الدوائر المسيحية.
رئيس المجلس:
خلافاً لبنود الدستور، لا يعدّل مقدمته الا استفتاء شعبي عام



لم تعد الفقرة «ي» ــ كيان الميثاقية ــ في مقدمة الدستور وجهة نظر يصحّ تجاوزها في أي وقت. باتت لها فلسفة خاصة يحددها رئيس المجلس: «تتجسد الميثاقية في مقدمة الدستور التي لم تعد جزءاً لا يتجزأ من الدستور فحسب، بل هي في منزلة تعلو الدستور نفسه. واذا صحّ أن في الامكان تعديل أي من مواد الدستور ما دام الدستور نفسه ينص على آلية تعديله والاكثرية التي يتطلبها، ومن ثم إكساب هذا التعديل شرعية دستورية سواء ناقضَ روحية المادة كالقول بتعديل المادة 49 أو لم يناقضها وتوخى إصلاحها كتعديل المادة 21 القائلة بتعيين سن الانتخاب، فإن أياً من بنود مقدمة الدستور لا يصحّ تعديلها على غرار المواد الاخرى للدستور. بل تتطلب إعادة النظر فيها أو تعديلها استفتاءً شعبياً عاماً نظراً الى انطوائها على قواعد بناء الدولة والعيش المشترك. وهو ما تعنيه تماماً الفقرة «ي». أتت كل الحكومات المتعاقبة في حقبة دستور جمهورية الاستقلال على التمسك بالعيش المشترك من دون أن ترد العبارة في ذلك الدستور. بيد أن دستور الطائف دوَّنها وجعل العيش المشترك مصدر شرعية كل سلطة تنبثق من المؤسسات. وهو مغزى الميثاقية التي أتمسك بها وأطبقها».
يضيف بري: «لم أكن في مداولات اتفاق الطائف، لكن الفقرة «ي» كأي من فقرات مقدمة الدستور تعلو ما عداها. ما يقال عن العيش المشترك، يقال أيضاً عن أن لبنان وطن نهائي لأبنائه جميعاً، ولبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، وأن الشعب هو مصدر السلطات، وأن لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين، وسواها. كلها فوق التعديل».
يقول أيضاً: «أي تعديل لأي مواد تناقض الفقرة «ي» والعيش المشترك غير دستوري ولا يمكن الاعتداد به. تالياً فإن تطابق الاحكام مع مقدمة الدستور ــ وقد جاء بها اتفاق الطائف للمرة الاولى ــ حتمي، والا عُدّت مناقضة له. في اجتماعات طاولة الحوار الوطني قال النائب بطرس الحرب إن تعديل بند التوطين يحتاج الى إجماع مجلس النواب، فرددت بأنه يحتاج الى أكثر من إجماع مجلس النواب. الى استفتاء شعبي عام. عام 1983 أجمع مجلس النواب على اتفاق 17 أيار مع إسرائيل، ثم أجمع بعد سنة على إلغائه. إذن إجماع المجلس غير كاف، لأن مجلساً آخر قد يأتي بعده ويقلب الإجماع على القرار الى إجماع على نقيضه. عام 2000 اتفقت مع وليد جنبلاط على اقتراح يسمح للفلسطينيين في لبنان ببناء مساكن لهم، وكنا وفّرنا له الغالبية النيابية لإقراره، إلا أنني اكتشفت في الجلسة أن المجلس يوشك على الانقسام على نفسه بين فريقين إسلامي ومسيحي، أحدهما يؤيد والآخر يعارض، فألغيت الاقتراح للفور. مذ ذاك، حفاظاً على الميثاقية، لم أسمح بطرح اقتراح أو مشروع في المجلس يعتبر مكوّن أساسي أنه يستهدفه».
على قياس كهذا، يقول بري، لا يمكن الذهاب الى جلسة لمجلس النواب او الى أي استحقاق دستوري وقد تغيّب «عصب» طائفة يمثلها داخل المجلس: «من دون تيار المستقبل لا عصب سنّياً لأنه القوة المرجحة في طائفته، ومن دون أكثر من فريق مسيحي أساسي كالعماد ميشال عون والقوات اللبنانية والنائب سليمان فرنجية لا عصب مسيحياً. ليس الامر كذلك بالنسبة الى حزب الله وحركة أمل، لأن مشاركة أحدهما يوفر العصب المطلوب. في كل حال قرارهما دائماً واحد».