إذا افترضنا أنه بسحر ساحر توافر للبنان 1.5 مليار دولار سنوياً خارج إطار أي إنفاق أو التزام، فما هي المجالات التي يُمكن أن يصرفها فيها؟ الخيارات كثيرة – ومنها التنفيعات السياسية – ولكن أبرزها على الأرجح يكون استغلال هذا المبلغ خلال ثلاث سنوات، لتنفيذ خطّة هيكلة قطاع الكهرباء كلياً من دون اللجوء إلى أيّ قروض أو أيّ مشاريع شراكة مع القطاع الخاص.
يُمكن طرح تساؤل كهذا حتّى وإن كانت البلاد على حافة الاقتتال الأهلي وغارقة في المجهول الإقليمي، إذ إنّ التقديرات الحالية تفيد بأنّ المياه اللبنانية تكتنز 25 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. صحيح أنّ هذه الكمية تُعدّ متواضعة لدى مقارنتها بالمعطيات العالمية – مثلاً، احتياطات قطر تتخطى 900 تريليون قدم مكعب، وتلك الخاصة بإيران تفوق 1100 تريليوناً – إلا أنّها تُغيّر الكثير في وضع بلد مثل لبنان، لذا فإنّ اعتماد النظام المالي الملائم لإدارة إيرادات الموارد مهمّ قبل أن يبدأ الحفر.
تحت عنوان: «الخيارات المتاحة أمام لبنان لتصميم إطار مالي لإدارة الموارد الطبيعية»، تبحث دراسة نشرها صندوق النقد الدولي اخيرا الأنظمة الممكنة.
يُشدّد معدو الدراسة، وهم ماريوز جارموزيك، دييغو بويو ونجلاء نخلة، على أنّ النظام المرتقب «يجب أن يركز على تأمين الاستدامة المالية وضمان حقوق الإجيال، نظراً إلى العمر القصير نسبياً لموارد الغاز التي ينتظرها لبنان». على أن تلحق هذه الخطوة إجراءات لتحديد المراسي الماليّة – لضمان استدامة المالية العامّة في حال تذبذب الأسعار - والإطار المؤسساتي الداعم.
ما هي إذاً الخيارات المتاحة أمام لبنان بناءً على التقديرات الحالية وعلى وضعيته الخاصة؟
تطرح الدراسة أربعة أنظمة ضريبية يُمكن تطبيقها في لبنان وتقدّم التقويم الخاص بكلّ منها. الخيارات الثلاثة الأولى قائمة على البنود الواردة في مسودة اتفاق الشراكة الاقتصادية (EPA) الذي قُدّم للشركات أخيراً وعلى قانون ضريبة الدخل المعمول به في لبنان حالياً، الذي يكلّف الشركات بنسبة 15% من أرباحها؛ والفارق بينها هو حصّة الحكومة المتوقع تحقيقها من التفاوض مع الشركات: «منخفضة»، «متوسطة» أو «مرتفعة».
تطرح الدراسة أربعة أنظمة ضريبية يُمكن تطبيقها


أما الخيار الرابع، فيقوم أيضاً على بنود اتفاقية الشراكة المطروحة غير أنّه يفترض أنّ الضريبة المفروضة على الشركات النفطية هي 25% لا 15% فقط.
«إنّ تقويم هذه الخيارات الأربعة يؤمن خارطة صوب النتائج المحتملة لأرباح الدولة، أو لتحديد سقف استعادة الأكلاف في إطار استدراج العروض التنافسية»، تقول الدراسة.
تُدرس هذه الخيارات بحسب سيناريوهين للإنتاج. الأول عبارة عن حقل نفطي متوسط الحجم قدرته 6.1 تريليونات قدم مكعب بأفق إنتاج يصل إلى 26 عاماً. أما الثاني، فهو حقل نفطي صغير بقدرة إنتاج تبلغ تريليوني قدم مكعب وأفق زمني يطول إلى 30 عاماً.
يخلص التحليل إلى أنّ الأنظمة المالية الأربعة المطروحة تؤمن للدولة تحقيق الإيرادات منذ السنة الأولى بسبب نظام الأتاوة المعتمد، غير أنّ النظام القائم على الحصة العالية من الإنتاج مع ابقاء ضريبة الأرباح نفسها يؤمّن أكبر الإيرادات، وهي 1.5 مليار دولار سنوياً في حالة الحقل النفطي متوسط الحجم.
ويحل في المرتبة الثانية النظام المالي الذي يفترض رفع الضريبة المذكورة إلى 25%. (السبب في هذه النتيجة غير المتوقعة هو أنّ الإيرادات المحققة في النظام الأوّل هي أعلى نتيجة انخفاض حدود استعادة الكلفة وارتفاع الحد الأدنى لحصة الدولة من الأرباح).
ولعلّ الأهم من اتفاقية تقاسم الأرباح والإيرادات بين الدولة وشركائها المضاربين (!) هو استراتيجية استدامة الإيرادات المرتقبة في إطار خطّة مالية مدمجة.
هنا، تطرح الدراسة سيناريوهين. الأوّل يُعدّ سيناريو عادياً، يقوم على المعلومات المتاحة حالياً، والتجارب المسجّلة عالمياً. بحسب هذا السيناريو المتحفظ، فإنّ الاحتياطي المؤكد هو 13 تريليون قدم مكعب (أي نصف الكمية النظرية، وذلك على اعتبار أن الحقول الجديدة غير مضمونة). استناداً إليه، فإن الإنتاج يبدأ عام 2021 (ما يحتّم انهاء المفاوضات مع الشركات المقدّمة عام 2015) ويستمرّ 35 عاماً، مع الوصول إلى ذروة الإنتاج عام 2036 على أن يبدأ بالتراجع بوتيرة سريعة عام 2043 وصولاً إلى مستويات متدنية جداً بحلول عام 2055.
«من المفترض أن تكون الحكومة قد ادخرت من إيرادات الغاز خلال هذه الفترة، واستثمرت في الأصول المنتجة لتحفيز النمو في باقي مفاصل الاقتصاد»، تنصح الدراسة.
ووفقاً لهذا السيناريو فإنّ إيرادات الدولة من الموارد الطبيعية ستمثّل 4% من الناتج، على أن تُمثل 14% من الإيرادات الإجمالية في نهاية العقد المقبل.
وبالانتقال إلى السيناريو الثاني أو «المتفائل»، فهو يقوم على واقع أن الاحتياطات هي فعلاً 25 تريليون قدم مكعب؛ وصحيح أن إنتاجها سيبدأ عام 2021 إلا أنّه يستمر أكثر من 35 عاماً، مع الوصول إلى الذروة عام 2036 واستمرار هذه الذروة حتى عام 2050.
وبحسب هذا الافتراض فإنّ الإيرادات من قطاع الغاز ستمثّل 7% من الناتج و25% من الإيرادات الإجمالية بحلول عام 2030.
التقديرات الحالية تُعدّ معتدلة. لذا فإنّ تطبيق الحكومة سياسة اقتراض فائضة – على اعتبار أن الموارد المقبلة تُغطي قروض اليوم - أو التعبير عن حماسة مفرطة للاشتراك في كلّ جانب المشاريع التطويرية المرتبطة بالقطاع، قد يرتد سلباً نظراً لأنّ النظام المحاسبي غير محسوم، وكذلك حجم الإيرادات المرتقبة من الموارد. «لهذا يجب اعتماد مقاربة مالية حذرة جداً لدى إدارة الموارد الطبيعية».
يرى معدو الدراسة أنّ تصميم النظام الضريبي المقترح، الذي ينتظر إقراره في مجلس الوزراء «يبدو ملائماً». فالأتاوة المقترحة يُفترض أن تؤمّن الإيرادات للحكومة منذ لحظة بدء الإنتاج؛ أما نظام تشارك إيرادات الإنتاج، فمن شانه أن يضمن للدولة حصة عالية من المشاريع ذات الربحية العالية، وفي الوقت نفسه يؤمن للمستثمر هامش راحة في أوقات تراجع الإنتاج أو ارتفاع الأكلاف؛ كذلك فإنّ فرض ضريبة الأرباح المعمول بها حالياً على الشركات النفطية يعني أن الأخيرة ستحظى بالمعاملة نفسها التي تتمتع بها الشركات الأخرى في كافة مفاصل الاقتصاد.
في مجال تعزيز الإطار الذي يحكم الموارد الطبيعية، تتحدث الدراسة عن أهمية إنشاء الصندوق السيادي (الذي، للمناسبة، مثّل نقطة خلاف حاد بين زعماء السياسة اللبنانية) غير أنها في الوقت نفسه تقول إنّه «في ظلّ غياب الاستراتيجية الخاصة بتعزيز المالية العامة ودمجها وخفض الدين العام فإنّ النقاشات الخاصة بالصندوق السيادي هي في غير مكانها». تشرح: «بكلام آخر فإنّه قد يكون من غير المجدي أن تجري مراكمة الأصول في الصندوق السيادي، فيما تستمر الحكومة في مراكمة الأعباء المالية الضخمة في مكان آخر».
كذلك تقترح الدراسة أن يجري تأسيس مجلس مالي مستقل يعمل على تعزيز الإطار المعتمد من خلال تطوير النقاشات الخاصة بالموازنة وتعزيز الشفافية.