عندما تدخل باب التبانة كصحافي محاطاً بعناصر الجيش، رغم إلحاحك عليهم لتركك وإصرارهم على مرافقتك، فذلك سيستفز مشاعر كثيرين من أهلها. ليست المرة الأولى، لكنها الوحيدة التي أدخل فيها برفقة أفراد من الجيش بذريعة «الحماية»، نزولاً عند طلب المسؤولين عنهم. المشهد غير مألوف، أو ربما بات كذلك، بعد توالي حوادث الاعتداء على الصحافيين، لكنه يبقى مرفوضاً، أقله من ناحية الشكل، على الرغم من مبرراته الأمنية.
لا يفوق هذا المشهد استنكاراً سوى مشهد المباني المطلية، غصباً عن إرادة أهلها، باللونين الأزرق والأبيض على امتداد شارع سوريا الفاصل بين بعل محسن وباب التبانة. يقول الأهالي هنا إن ممثلي تيار المستقبل اشترطوا عليهم لترميم منازلهم طلاءها بهذين اللونين حصراً. لا تتوقف الأخبار عن عمليات فساد يتعدد أبطالها. يستعيد أحد أبناء المنطقة «فضيحة» شيكات مالية بقيمة ٢٠٠ ألف ليرة صرفها تيار المستقبل لتوزيعها على الأهالي، لكنهم لم يروا ليرة منها. النقمة على المستقبل لا تعادلها نقمة. يتحدّى آخر أحداً من نواب طرابلس بدخول التبانة قائلاً: «أُقسم أنهم لن يجرؤوا، فكيف يكونون ممثلين عنا». وسط هؤلاء، يصل شاب عشريني يدعى علي، إحدى قدميه مقطوعة. أُصيب خطأً خلال جولات الاشتباكات بين جبل محسن باب التبانة. وقد ظهر حينها على إحدى الشاشات التلفزيونية، طالباً مساعدته بعد إصابة قدمه بـ»غرغرينا»، ورفض أحد مساعدته. لم يُسعف علياً أحد، لذلك يتنقل اليوم قافزاً على قدم واحدة. يُخبر أنّه يبحث عن عمل لا يجده أصحاء الجسم من أبناء التبانة.
أهالي التبانة: يتقاسم السياسيون والإعلاميون مسؤولية ذبحنا



من إحدى الزواريب المتفرعة من شارع سوريا، باتجاه مسجد عبدالله ابن مسعود، تكثر مشاهد الركام والمحال المحروقة. يتناقل الأهالي هنا أخبار الاشتباكات الأخيرة. يخبروك كيف انتقل المسلحون من منطقة الأسواق التي احترقت بعض أجزائها جراء قصف الجيش، إلى داخل التبانة. اليوم تُشيّد الورش لإعادة ترميم ما دُمّر. ينشغل أصحاب المحال بإقامة محالهم من بين الركام.
على مقربة من «حلويات القناعة» الشهيرة في باب التبانة، يبادرك أحد الشبان مستنكراً: «هل نحن يهود حتى تحضر بمرافقة الجيش؟». المشاعر تجاه جنود الجيش متضاربة. التوجس والحذر سيدا الموقف، فالتبانة لم تعد تشبه نفسها. كثرة الأحداث الأمنية غيّرت هذه المشاعر حتى بات مشهد عناصر الجيش داخل أحيائها أمراً مستغرباً. لا شيء يخفي إحباط أهالي المنطقة. نظرات شبابها المنتشرين في زوايا أزقتها تقول الكثير. الملل هنا يقيم في النفوس اليائسة. يستعيدون التوقيفات الأخيرة باستنكار. بالنسبة إليهم، «لا علاقة لكثير ممن تم توقيفهم» بالأحداث التي شهدتها طرابلس. يتحدث هؤلاء عن «إلباس الموقوفين لباساً غير لباسهم، فيما من افتعلوا الإشكال مع الجيش حلقوا لحاهم ولا يزالون مختبئين في الأحياء»، في إشارة إلى شادي المولوي وأسامة منصور. مظلومية أهالي التبانة مردها اعتبارهم أنهم يدفعون الثمن في زمن الحرب والسلم. الأغلبية الساحقة من شباب الحي الطرابلسي الشهير عاطلة من العمل. معظم هؤلاء لا يجدون من يُحمِّلونه وزر ما حلّ بهم سوى وسائل الإعلام. من هولاء مازن شحود، أحد مشايخ باب التبانة البارزين. لا يختلف الشيخ شحود عن معظم أهالي المنطقة. يلقي الرجل باللوم على وسائل الإعلام التي ساهمت في تضخيم خطر الإرهاب. فيختار مقاطعة بعض الوسائل دون غيرها، لاعتباره أنها لعبت الدور الأبرز في مظلومية أهله. إلى جانبه، يقف الشيخ خالد السيد. لا يُبدي الأخير موقفاً سلبياً كزميله، لكنّه ينأى بنفسه عن الظهور في كل وسائل الإعلام. يُنقل عن السيد اعتباره أن «جراح التبانة يجب أن تُعالج بصمت». وفي خضم تقاذف المسؤولية، برز أول من أمس، خبر تناقلته وسائل الإعلام عن تفجير عبوة وإصابة عسكريين في طرابلس، تبيّن لاحقاً أنّ قنبلة صوتية ألقاها أحدهم على خلفية إشكال فردي. يستنكر الشيخ نبيل رحيم هذه الأخبار غير الدقيقة التي يرى أنّها تشحن النفوس، كاشفاً أنّه اتّصل بالقناة الإعلامية للتوضيح فردّت بالقول أنها استندت إلى بيان الجيش. ولاستيضاح الأمر، عاد رحيم إلى الجيش للتثبت، فتبين عدم صدور أي بيان بهذا الخصوص.
وبين السيد وشحود ووسائل الإعلام، يُجمع أبناء التبانة على تحديد «المجرم الأول بحقنا». بالنسبة إليهم، سياسيو المدينة مجتمعين يتحمّلون المسؤولية. هنا علناً ستجد من يشتم زعيم تيار المستقبل سعد الحريري. الحريري ليس الوحيد الذي ينال حصّته من الشتم. كذلك الوزير فيصل كرامي والرئيس نجيب ميقاتي والنائبان سمير الجسر ومحمد كبارة والنائب السابق مصطفى علوش لا يسلمون من ألسنة الأهالي الغاضبين هنا. يتجمهر هؤلاء كأنما أُتيحت لهم الفرصة للتعبير عن غضب يعتمل في داخلهم. هو لن يُغني ولن يُسمن من جوع، لكنّه على الأقل سيخفف بعض الألم المكبوت. هكذا يتقاسم السياسيون والإعلاميون مسؤولية ذبح المدينة، في نظر أهالي الأحياء الفقيرة. يستعيد أحد الشبان هنا الأحداث الأخيرة. يتحدث عن معركة بين «الإرهابيين والجيش»، لكن زميلاً له يؤنبه. ينقسم الأهالي هنا بين مرحّب بوجود الجيش ورافض له. يتعاطى القسم الأخير بسلبية مع هذا الوجود الأمني المفروض غصباً. في عرفهم، هناك مسلّمةٌ: «نحن ندفع الثمن في زمن المجموعات وزمن الجيش… فدماؤنا تسيل في الحرب والسلم».
بدوره، كحال كثيرين من وجهاء طرابلس، يُحمّل مستشار الرئيس نجيب ميقاتي للشؤون الدينية الشيخ عبد الرزاق القرحاني وسائل الإعلام المسؤولية عن جزء من التردي الذي وصلت إليه الحال في المدينة. يرى القرحاني أنّ وسائل الإعلام أحياناً تلعب دوراً سلبياً في تسليط الضوء على النافر من الأحداث وإغفال الجانب المضيء لمدينة العلم والعلماء. وإذ يرى أن بناء اللحمة مجدداً بين الجيش والأهالي يحتاج إلى وقت، يتحدث عن مبادرة يجب أن يأخذها الجيش للاقتراب أكثر من الناس، كي لا يرى فيه الأهالي يداً أمنية فحسب، بل يداً تمتد لمساعدتهم في شؤونهم المعيشية إذا تطلب الأمر. ويدعو القرحاني إلى وقفة مسؤولة من الإعلام إلى جانب طرابلس لرفع الظلم عنها.