بغداد | «المتنبي» نصّ مفتوح يحفر رموزه بقوّة في جسد بغداد الحالي. لا يمكن معه وضع نقطة النهاية، إذ لا يبدأ فقط من جهة شارع الرشيد، وينتهي عند تمثال أبي الطيب الذي يحمل المكان اسمه، أو عند شاطئ نهر دجلة الذي تتوقف عنده خطوات من يأتيه. هو نصّ يحتضن أسماء وذكريات وسِيَراً مرميةً على الأرض أو على خشب البسطيات التي تنتشر على الرصيف الأشهر وسط العاصمة العراقيّة.
تدخل الشارع، فتواجهك أكداس الكتب التي تجد فيها عناوين مألوفة وأخرى نادرة لم تتوقع أن تراها بهذه السهولة التي توفرها صباحات الجمعة من كلّ أسبوع. لنكهة العثور على كتب قيّمة بطبعات قديمة، طعم خاصّ لدى روّاد الشارع الذي يأتون من كرخ بغداد ورصافتها ومن محافظات العراق الأخرى، تجتذبهم أصوات الباعة: الكتاب بألف دينار، أو بألفي دينار (أقل من دولارين). الكتب لهؤلاء الباعة، صفقة بيع وشراء لا أكثر. لاعلاقة لهم بمضمون ما يعرضونه على قماشة قديمة أو كيس طحين فارغ لفصل «بضاعتهم» عن الأرض. مع نداءات هؤلاء وتقليبك كتبهم بين أسبوع وثانٍ، قد تجد في الشعر: «تقريظ للطبيعة» لعبدالرحمن طهمازي (دار الشؤون الثقافية 1986)، و«في مثل حنوّ الزوبعة» لحسب الشيخ جعفر (دار الشؤون 1988)، و«نحن» لصلاح نيازي (وزارة الثقافة 1978)، أو «رماد الفجيعة» لسامي مهدي (دار البصري 1966). بائع «الكتاب بألف»، لا يعرف جميع هذه الأسماء، ولعله لم يقرأ لها سطراً واحداً. علاقته بورق قصائدهم تجاريّة بحتة، بعد شرائه كتب قارئ راحل من ذويه، أو مهاجر قرّر تصفية ما يملك، ومن بينها مكتبته الشخصيّة.
وليس من سبب أو قيمة إبداعيّة تقف وراء بيع كتب أخرى بثمن أعلى. الدافع هو أنّ «الشروة» بمجملها كانت بسعر أعلى، (والشروة: تعبير بالمحكية العراقيّة عن صفقة شراء كاملة لمن يبيع حاجياته بالجملة).
ومع هذا البائع الأخير، تقع بين يديك كتب لم تتخيّلها. مرّة تجد «قصائد مختارة من الشعر العالميّ الحديث» بترجمة بدر شاكر السياب، وبعدها بأشهر تظفر بـ «الأعمال الشعريّة الكاملة لسان جون بيرس» بترجمة أدونيس (وزارة الثقافة في دمشق 1978)، وتلاحقك الخشية نفسها من التلف الذي يهدّد كتاب السيّاب قبل كتاب زميله السوري. الشاعران اللذان التقيا في بيروت ضمن مجلة «شعر» وبدايات الحداثة في خمسينيات القرن الماضي، يتجاور اسماهما كمترجمين على بسطة كتب بغدادية، إلى جوار أسماء أخرى، بينما لا يعرف صاحب البسطة غالباً أهمية هذه الأسماء والتواريخ والعناوين.
ومع صيحة أخرى من بائع جديد على الشارع، يصادفك كتاب «رامبو وزمن القتلة» لهنري ميللر بترجمة سعدي يوسف (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر1979). المحصلة أنّ الكتب النادرة لا تجلبها إلا صيحات بيع المكتبات الشخصيّة التي تستغرب وأنت تطالع بعض عناوينها أنّ الصفحات الأولى منها موقعة بإمضاءات أسماء أدبيّة قبل 30 أو 20 عاماً أو باهداءات أدباء لزملائهم ممّن هم اليوم من مرتادي الشارع ومن بين وجوهه المعروفة، فتسأل ببراءة: «كيف تخلّوا عن كتبهم! وتركوا عليها إهداءات شخصية أيضاً».
نوع ثانٍ من بسطيات الكتب المعروفة في الشارع تختصّ بجلب كتب مهمّة من دور نشر شتّى، أو تعرض ما تنتجه دار النشر، بسطية دار «الجمل» مثلاً، أو بسطية «دار ميزوبوتاميا». بمجرّد النظر إلى كتب «الجمل»، تمرّ في البال ترجمات كتب آذر نفيسي ولوتريامون ونيتشه، ودواوين سركون بولص وفاضل العزاوي وسعدي يوسف، ودراسات سعيد الغانمي وسلام عبود وجمال الحلاق. وأنت في الشارع الذي استعاد عافيته بعد تفجيره عام 2007، تستذكر المثل السومريّ الذي افتتح به سركون ديوانه «عظمة أخرى لكلب القبيلة» (الجمل 2008): «المدينة التي ليست لها كلاب حراسة يحكمها ابنُ آوى»، ونحن في بغداد البسطاء والحالمين لا نملك كلاب حراسة من التي تشمّ الديناميت عن بعد!
محطّات الشارع هي وقفات عند بسطياته التي يحمل كلّ منها قصّة ترتبط بصاحبها، فبسطية الكتبي الراحل نعيم الشطري هي مفتتح لمزاده الأسبوعي الذي ينظّمه أمام مكتبته منذ التسعينيات، وهو ينادي: «بيت بلا مكتبة صحراء قاحلة يسكنها أناس جهلاء».
في السابق كانت بعض البسطيات منبراً لتحدّي الرقيب وخلفه السلطة كلّها أيّام نظام صدّام. يوم كان رجال الأمن يترصّدون أي بائع يجلب كتباً ممنوعة وهي غالباً قائمة من الإصدارات الدينيّة واليساريّة، وكتب مؤلفين ممنوعين من دخول العراق. فكم من مرّة اقتيد فيها باعة كتب وأصحاب بسطيات إلى أقبية الأمن؟
اليوم تهشّم بورتريه الرقيب المشؤوم، وصار الشارع حرّاً فعلاً. بإمكان أية مكتبة أو بائع على الرصيف جلب ما يريد من الكتب وعرضها لروّاد الشارع. وإذا كان هناك شكلان من البسطيات التي تبيع كتباً بسعر ثابت من باب التصفية (ألف أو ألفا دينار)، أو التي تعرض للقرّاء عناوين حديثة وبأسعار متفاوتة، فإنّ الباعة أنفسهم متنوّعون في ما بينهم، فمثلما هناك من امتهن بيع الكتب فقط، يوجد المثقف والقارئ الحصيف الذي أسهم وجوده في «المتنبي» في تعميق معرفته.
بتجوالك المستمر هناك، يلاقيك - على يسار الشارع- الكتبي أحمد العبادي. تستطلع المؤلفات التي يعرضها على بسطيته، فيتقدّم شاب بسؤاله عن رواية «بريد بغداد» لخوسيه ميغيل باراس. وحالما يعتذر منه لعدم توافر الكتاب، يبادرك بالقول إنه يعرف الرواية التي تحكي قصّة مجموعة أوراق مهملة في درج مكتب رئيس تحرير صحيفة في تشيلي هي «رسائل من بغداد»، ويذهب الحوار إلى بينوشيه وانقلابه ضدّ الليندي.
العبادي يرى أنّ ظاهرة البسطيات انتشرت بعد حرب الخليج 1991، يوم كانت هناك علاقة خاصّة بين المثقف وبينها، كون أغلب المثقفين بدأوا ببيع كتبهم أو نزلوا إلى الشارع للانخراط في بيع وشراء الإصدارات وتوفير الكتب الممنوعة بشكل خفيّ. لكنه يرى «أن وجودها قد مرّ بمرحلتين بعد نيسان (أبريل) عام 2003، الأولى باندفاع الناس والمثقفين نحوها بسبب رغبتهم بمعرفة الحقيقة والرأي الآخر، ومن ثمّ الانحسار بفعل تقلّبات الأوضاع وضمنها الوضع الاقتصادي، وخيبة أمل الناس ممّا يحصل في البلد، وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي».
بعد حديث عن الدكتاتورية التشيليّة وربطها بالجو العربي العام، تجتذب اهتمامك على مسافة أمتار جمهرة من الشباب التي تتجمّع حول بسطية أبو بلال (ستار محسن). هو مهتم بتقديم العناوين الجديدة التي تنشرها دور «الساقي» و«الجديد» وسواهما. هنا تصادفك الشاعرة نضال القاضي التي تسمي علاقة الأدباء والمثقفين بالبسطيات بـ «علاقة خبز»؛ فبرأيها أنّ «كثيرين أداروها بعد اضطرارهم إلى الوقوف على الرصيف وبيع كتبهم، لدرجة أنّ بغداد كانت سبّاقة قبل غيرها من العواصم العربيّة في ظاهرة الاستنساخ التي هي وليدة أجواء البسطيات وارتفاع أسعار الكتب».
القاضي تصف الشارع بما فيه من كتب وروّاد بـ «التظاهرة الثقافيّة الفريدة» و«الفضاء الحرّ الذي يأخذنا خلسة من أحزان بيوتنا وهمومنا. إنّه مأوى بغداد من كلّ ما يجرحها ويطاردها بالقتل والنهب والألم». في الجهة الأخرى من الشارع، حيث مكتبات «عدنان» و«النهضة» و«القاموسي»، يتجوّل الكاتب والصحافي توفيق التميمي الذي يحتفظ بتجربة خاصّة يسميها «محنة ذاكرة الرصيف»، فمن ماضي محنته الإنسانيّة - الثقافيّة وبيع الكتب هنا قبل عقدين وأكثر، يذكر أن «رصيف الكتاب الذي ظهر أواخر الثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن السابق، كان نوعاً من الابتكار الثقافي لمقاومة الأزمات. ومن الطبيعي أن يكون الرصيف ملاذاً لقارئ متعطش وسط عزلة خانقة عن العالم ومستجدات حداثته ومعها أجواء كابوسيّة سممت الحياة الثقافيّة فرضهما نظام جنوني ارتكب سلسلة من الحماقات التي لم تتوقف».
تجد قصائد من الشعر الحديث بترجمة بدر شاكر السياب وأعمال سان جون بيرس بترجمة أدونيس



ولا يمكن للجولة في الشارع إلا أن تنتهي عند قيصرية «البنك»: مدخل فرعي إلى باحة يجلس فيها الروّاد وحولهم عدد من المكتبات، وتتصدر واجهتها بسطيات عدة، وهنا اعتدنا من صاحب مكتبة «الحنش»، الكاتب كريم حنش، ألا تكون بسطيته التي يعرضها كلّ يوم جمعة، مجرّد مساحة لبيع الكتب، بل يمكن أثناءها أن تسمع أغنيات أم كلثوم وميادة حناوي وياس خضر وسعدون جابر وكريم منصور، أو أن تقرأ لافتة كتب فيها مقطعاً من شعر مظفر النواب، أو نعياً لفنّان الشعب فؤاد سالم أو للشاعر الشعبيّ كاظم اسماعيل كاطع.
حنش يعتقد أنّ علاقة المثقفين بالبسطيات تغيّرت «لأنّ كثيرين لا يأتون إلى المتنبي باستمرار لانشغالاتهم وعزوفهم عن الشارع الذي صارت فيه الثقافة استعراضيّة ليس فيها أي عمق معرفيّ، بل ترسّخ الاندماج في المؤسّسات السياسيّة والدينيّة المهيمنة على مركز القرار».
موضوعة العناوين النادرة، تغيّر حالها أيضاً بنظره. بعدما «كانت تخرج من ثقب إبرة ويوفرها مثقفون من الخارج ويتمّ تبادلها بصورة سريّة خشية الرقيب الأمنيّ، اليوم لا وجود لعنوان نادر، فقد توفرت الكثير من المصادر، إلا بعض العناوين التي يشكّل العثور عليها مصادفة في بعض البسطيات مثل كتب الفلسفة ودواوين الشعر العالميّ والعراقيّ بطبعاتها القديمة».
ويؤكّد حنش «بقاء ظاهرة الاستنساخ حتّى هذه اللحظة، وتحديداً الكتب التي يأخذ المستورد نسبة عليها فيتضاعف السعر، ويصعب على عدد كبير من القرّاء شراؤها، فنضطر إلى استنساخها، بخاصّة إذا كان سعر الكتاب الواحد يتجاوز 15 ألف دينار عراقيّ (13 دولاراً)، فعند استنساخه يصبح سعره 7000 دينار، أي نصف سعره تقريباً».
ونحن نتحدّث مع حنش يمرّ شبان يتجهون صوب «مقهى الشابندر» وهم يحملون آلات العود والغيتار، فيقول لنا: «نعم تطوّرت هويّة الشارع كما ترون، من شارع لبيع الكتب إلى مهرجان أسبوعيّ مزدحم بالأفكار والاتجاهات والسلع، كأنه عكاظ الذي يتبارى فيه المتنافسون، سواء كانوا كتّاباً أو سياسيّين أو مؤسّسات».