ينهض «نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط: تحليل ظاهرة توظيف الدين في السياسة الدولية» (2012) الذي صدرت أخيراً ترجمته العربية (تعريب سلام دياب ـ «دار الفارابي»، 2014) على قراءة النزاعات في الشرق الأوسط خارج إطار التفسيرات الدينية والمذهبية. يتفحص جورج قرم (1940) العوامل الكامنة وراء التوظيف المكثف للدين بعد الحرب الباردة، الذي استخدم لمقارعة ما سميّ نهاية الإيديولوجيات العلمانية.
تقاطع هذا التوظيف مع صوغ أفكارٍ مثل أطروحة هانتينغتون «صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي». يقرأ قرم الصراعات الجارية في الشرق الأوسط، خصوصاً العالم العربي في سياق صراعات المصالح والهيمنة والتناقضات في الرؤى الدنيوية، وليس ضمن الصراعات الدينية والمذهبية أو بين الغالبية والأقليات.
يعالج سياق التوظيف الديني في السياسات الدولية بعد انهيار المنظومة الشيوعية على مستوى السياسة الخارجية الأميركية. تفكك الاتحاد السوفياتي نجم عنه فراغ هائل في النظام العالمي وآل إلى إضفاء البعد الديني على الصراعات، وجعل الإسلام الأصولي «العدو الوريث» بأسلوب ينم عن استنزاف حاد للدين في معترك اللعبة السياسية الأممية إثر هيمنة الولايات المتحدة المتوجسة من تصاعد قوة العملاقين الصيني والروسي. يعمل قرم على تشخيص أسباب عودة الدين وتوظيفاته ضمن مدة زمنية واسعة تتجاوز سقوط العملاق السوفياتي. التوظيف الأميركي للديانات الرئيسة سبق هذه الحقبة التاريخية المفصلية، حين انشغلت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون بدحر العدو الشيوعي عبر الأصوليات الاسلاموية وتوطيد الهويات الانفصالية. هذه العودة الدورية في الاستغلال السياسي للديني سبقها في أواخر الستينيات إنشاء «منظمة المؤتمر الإسلامي» بوصفها أول مؤسسة دولية تجمع دولاً على أساس الانتماء الديني، تلاها قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
يحدد قرم خمسة أحداث رئيسة أبطلت انتصار الوجهة العلمانية للعالم: نجاح الوهابية في الإسلام، انفصال مسلمي الهند، الصهيونية وقيام دولة إسرائيل، تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، الثورة الدينية الإيرانية.
يعتبر المؤلف أن التعددية الثقافوية تشكل مصدراً أساسياً من مصادر الصراعات. تتقدم مع تآكل مفهوم المواطنَة الحديث الذي يعني إدماج كل أفراد المجتمع في جسد سياسي واحد من دون أي إقصاء على أساس عنصري أو ديني أو جنسي أو متعلق بالانتماء العرقي أو العائلي. كان للعولمة الاقتصادية ـ كما يخلص قرم ـ تأثير بالغ في إنتاج الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية، ما سمح في ضعضعة المثالية الكامنة في نظام المواطنَة لمصلحة التلاعب بالهوية الأساسية، دينية كانت أم عرقية.
يضعنا في السياقات التاريخية لهواجس الهوية وتصاعدها، مرجعاً إياها إلى ثلاثة أسباب: الانهيار التدريجي للإيديولوجيات العالمية العلمانية منذ بدء المرحلة الأولى للحرب الباردة؛ وتجانس أنماط الحياة في أنحاء العالم تحت تأثير مجتمع الاستهلاك والعولمة الاقتصادية الذي لم يخلُ من تأجيج مختلف أشكال المقاومة الثقافية؛ واكتشاف أنموذج التعددية الثقافوية وفق النمط الأنغلوسكسوني كما نظّر لها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور بفعل الارتفاع الهائل لعدد المهاجرين الوافدين من قارات أخرى إلى أوروبا.
«نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط» يدق ناقوس الخطر حول التمادي الدولي في توظيف الدين، وما ترتب عليه من نتائج كارثية تهدد أنموذج العلمانية الذي أعطته الفلسفة الكانطية للعلاقات الدولية الهادفة إلى إرساء السلام الدائم بين الأمم أو الدول.