في دراسة نشرت في باريس قبل أيام، تبين أن أزمة السير رتبت على الناتج الوطني الفرنسي خسارة قدرها نحو 23 مليار دولار أميركي سنة 2013. وهي السنة التي قدر فيها صندوق النقد الدولي الدخل العام في فرنسا بنحو 2740 ملياراً، أي نحو 0.84 في المئة من مداخيل الناس، هدرت بسبب زحمة السير، أو عمل أكثر من يومين في السنة ذهب هباء. تثير المسألة فضولك، تذهب أكثر في محاولة استطلاع أبعادها. تكتشف أن تلك المشكلة ترتب على كل بيت فرنسي أكثر من ألف دولار سنوياً.
وبتوسيع نطاق البحث وإسقاطه على المستقبل القريب، تكاد المشكلة تلامس حجم الكارثة: أكثر من 162 مليار دولار أميركي كلفة أزمة السير في أوروبا سنة 2013. وكلفتها المقدرة في فرنسا لسنة 2030 قد تبلغ 30 مليار دولار.
تحاول تطبيق تلك الأرقام على واقعنا اللبناني. فرنسا بلد شاسع المساحة. 552 ألف كيلومتر مربع. سكانه نحو 65 مليون نسمة. أي بكثافة نحو 118 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. هنا تبدأ الصدمة لديك: ماذا إذاً عن خسائر أزمة السير في بلد مثل لبنان، بكثافة سكانية تزيد أكثر من ثلاثة أضعاف؟ ثم فرنسا بلد متقدم، لديه شبكة طرقية تبلغ نحو مليون كيلومتر مقابل نحو 39 مليون سيارة ومركبة، أي بمعدل 25 متراً للمركبة الواحدة. فماذا عن لبنان، حيث شبكة طرقنا المعبدة لا تزيد على 7300 كيلومتر، يستخدمها أكثر من مليون و700 ألف سيارة مسجلة، يضاف إليها عدد مجهول من السيارات المخالفة وغير الشرعية وغير المحصية، مما قد يبلغ رقم المليوني مركبة في أدنى تقدير. أي بمعدل ثلاثة أمتار و65 سنتيمتراً لكل سيارة! تصوروا الرقم! أي أن كل طرقات لبنان لا تكفي لوقوف سياراته. خصوصاً إذا ما احتسبنا طول سيارات الدفع الرباعي والشاحنات. شوارعنا وجاداتنا وطرقاتنا السريعة والبطيئة كلها، لا تكفي مرآباً لسياراتنا. لا تنتهي المقارنة هنا. في فرنسا ثمة نقل مشترك متطور وفعال، وثمة ثقافة مدنية ومدينية تقبل على استخدامه من كل الطبقات. هناك في المترو يختلط الفرنسيون. والأهم، هناك يقرأون. ويقرأون تلك السلعة التي انقرضت في لبنان: الكتاب. عندنا، لا نقل مشترك. باستثناء عصابات الباصات الخاصة القاتلة والمسببة لأزمة سير، أكبر مما لو استقل كل من ركابها سيارة سياحية من الحجم الكبير. وعندنا لا لزوم لأي شيء مشترك. أما القراءة، فطقس وثني بائد عندنا ومكفر. وحسناً فعل رئيس سابق للجمهورية، إذ ألغاها بمرسوم جمهوري، مباشرة على الهواء، فيما كان منكبّاً على ممارسة واجبه الوطني في لعب طاولة الزهر العثمانية...
هكذا تصير الصورة أكثر وضوحاً: في فرنسا يخسرون كل هذه المبالغ نتيجة أزمة السير سنوياً، فماذا عن لبنان؟ محاولة بسيطة للقياس يمكن إجراؤها عبر معدلات الشبكة الطرقية مقارنة بأعداد السيارات. المعدل في فرنسا أكبر مما هو في لبنان بأكثر من ستة أضعاف. ماذا لو كانت النسبة نفسها مضروبة بناتجنا الوطني؟ أي ماذا لو كانت نسبة خسارة مداخيلنا ستة أضعاف النسبة الفرنسية على الأقل؟ تصير عندها نحو خمسة في المئة من ناتجنا الوطني! أي أكثر من 2200 مليون دولار أميركي، نحرقها كل سنة على طرقاتنا، مع سياراتنا ومحروقاتنا وأعصابنا وأوقاتنا. أكثر من سلسلة الرواتب التي فجّر حكامنا البلد من أجلها، وأكثر من نمونا الراهن بضعفين. وأكثر من موازنة تشغيل جيشنا الوطني بنحو مئة ضعف. وأكثر من ثلثي خدمة ديننا. واكثر من ثلاثة أرباع رواتب كل قطاعنا العام. واكثر من 10 مليارات رغيف خبز لجائع، وأكثر من ثلاثة ملايين و600 ألف راتب لعامل بالحد الأدنى من الحياة ... كل ذلك نحرقه كل سنة، ولا نهتم، ولا من يهتم.
ندرك اهتمامات مسؤولينا. ونراعي اعتباراتهم. نعرف مثلاً أن الرئاسة عندنا مرتبطة بالنووي الإيراني. وأن الاستحقاق النيابي متعلق باستحقاق دي ميستورا في حلب. ونفهم أن قانون الانتخاب متلازم مع صحة عبدالله السعودي. وأن الانتخابات الجامعية معلقة في انتظار يالطا الجديدة الممكن أن تنبثق من مسقط، قبل أن تسقَط علينا مجتمعين ... كل ذلك مفهوم ومقبول على مضض وألف غصة ونكسة وأسى. لكن لكن لكن، ما مشكلة شرطي السير الغافي عند هذا التقاطع؟ عند كل تقاطع. وحيثما هناك شرطي سير. من يعلمه أن مهمته ضبط المخالفة لا تسهيلها والابتسام لمرتكبيها؟ من يفهمه أن كارثة وطنية ترتكب كل يوم تحت عينيه المغمضتين، وعيون رؤسائه «البلقى»؟ ومن يعيد تأهيلنا كشعب، لاحترام أنظمة السير، كأبرز مؤشر لكوننا بشراً في مجتمع؟
وحده ذاك المسؤول الكبير الذي يعبر يومياً جسر النقاش عند الثامنة والنصف صباحاً، سيستغرب كل كلمة وحرف ومعنى مما سبق، إذا كان يقرأ. سيحسب أننا نكتب عن كلكوتا. فهو حين يطل موكبه الخماسي السيارات السوداء من أول النقاش، تنتشر عناصره العسكرية حتى جسر أنطلياس. تسدّ له أكثر من عشر طرقات، طيلة أكثر من عشر دقائق. حتى يطل بمهابته الفذة. يجتاز الطريق عكس السير، ويصل سريعاً إلى وجهته، تماماً كما اعتاد الوصول ربما، طيلة حياته. لا أعرف هوية ذاك الرجل العظيم. ولا يعرفها المعتقلون في سياراتهم هناك. لكنهم يطمئنون إلى أن مسؤولهم قد وصل، عكس السير. وأنه وصل مصحوباً بالآلاف من دعاءاتهم، حتى يجف ريق الصباح. تصبحون على وطن!