سابقاً كانت أقواس النصر تسبق سيارة البطريرك الماروني أينما اتجهت. مغادرته بكركي إلى بيروت كانت حدثاً يجتمع المواطنون عند مفارق الطرقات ليشهدوا عليه. أما اليوم، فلن يفاجأ المارّون في طريق المطار بالبطريرك بشارة الراعي يلوّح لهم من نافذة سيارته. وقد يفاجئ غبطته سائقه بطلب الانعطاف فجأة وسلوك أحد الطرق الفرعية لزيارة أحد المسؤولين من دون موعد مسبق. تدخل قاعة في أحد فنادق سن الفيل فتجد البطريرك مرحّباً ومودّعاً. وقد تصادفه في مطعم في ساحل جونية.
تلبي دعوة أحد سياسيي الجبل فتجده موجوداً. لا يقمع البطريرك رغبة أحد أصدقائه في إحياء عيد ميلاده باحتفال كبير. ولّى زمن القول إن البطريرك يزار ولا يزور. يعيش الراعي في ما بعد عصر السرعة. يفاجئ كل المحيطين به: هم يحتاجون إلى أربع وعشرين ساعة أقله لاستعادة نشاطهم بعد السفر الطويل، أما هو فلا تتأثر ديناميكيته أبداً بفارق الوقت بين لبنان وأوستراليا مثلاً. لا تكاد قدماه تطآن أرض المطار، حتى ينطلق بحيويته المعتادة. ولا تكاد خزانات الطائرة البطريركية تملأ بالوقود حتى يسافر مجدداً. يلتقي هنا قائد الجيش العماد جان قهوجي والسفير الروسي ألكسندر زاسبكين ويغادر إلى روما.

حشد رجال الأعمال يتضخم يوماً تلو الآخر في الصرح البطريركي

يضع أربعة أو خمسة رجال أعمال طائراتهم في تصرّفه تقديراً منهم لشجاعته في انتقاد «مقايضة السياسيين مواقفهم بالمال السياسي» خلال تصريحاته الأوسترالية. أثناء تجواله في خليج سيدني، على متن باخرة استأجرها (أو يملكها) رئيس مجلس إدارة بنك بيروت سليم صفير، لم يستطع الراعي التفكير إلا في أهمية «تحرير شعبنا من عوزه كي لا يبيع وطنه ونفسه وكرامته لأحد». يلعب ما سبق دوراً رئيسياً في تفضيله سركيس سركيس ونعمة افرام وسليم صفير وشارل الحاج وفادي رومانوس على رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون والرئيس أمين الجميل والنائب سليمان فرنجية وسمير جعجع. أموال من سبق تعدادهم تضمن استقلاليتهم كما يبدو. يستفزه انتقال البعض (من دون تسمية آل الحريري) من «تمويل الميليشيات إبان الحرب إلى دفع ثمن المواقف السياسية في يومنا هذا». ورغم رائحة أطباق ثمار البحر الشهية، لا ينسى البطريرك أن «ثلث اللبنانيين صاروا تحت مستوى خط الفقر».
سياسياً انتهى الحراك الإيجابي الذي أوجده الراعي غداة انتخابه بطريركاً، سواء عبر لقاءات الأقطاب الموارنة أو من خلال الاجتماعات الموسعة. الكلام نفسه يسمع اليوم في أوساط العونيين والقوات والمردة. يتجاوز أحد النواب العونيين رمزية سفر الراعي عند كل استحقاق سياسي أساسي، كإقرار القانون الأرثوذكسي أو التمديد للمجلس النيابي، ليشير إلى معاناة البطريركية سياسياً اليوم من مسألتين رئيسيتين: أولاً، عدم تحديد ما تريده فعلاً، سواء انتخاب واحد من الأقطاب الموارنة الأربعة رئيساً أو اختيار شخصية توافقية أو غيره. وثانياً، عدم وضع خريطة طريق واضحة لتحقيق هدفها. ويشير النائب العوني إلى وجود عوائق أحياناً تحول دون تحقيق الهدف، لكن لا بدّ من وضع هدف أولاً. ليس بين الأحزاب المسيحية من ينسجم مع الراعي غير الكتائبيين الذين يجارونه في عدم معرفة ما يريدونه. وقد انضم إلى قائمة اليائسين من إمكان التفاهم مع البطريرك الرئيسان نبيه بري وسعد الحريري، إثر تغييره موقفه، بنظرهما، بشأن التمديد. هذا الإحباط السياسي العام من الراعي سبقه إحباط مجموعتين: الأولى تضم نواب 14 آذار السابقين، أصدقاء فارس سعيد، الذين ساءهم حصر البطريرك التصريحات السياسية في بكركي به وحده. والثانية تضم الشخصيات والقوى المسيحية الأقرب إلى 8 آذار التي حاولت في مطلع عهد الراعي توريطه برعاية أكثر من تجمع سياسي.
إلا أن سيد الصرح لا يحسب حساباً لكل هؤلاء. ما همّه ألا يفهم العونيون والقوات والمردة وحركة أمل وتيار المستقبل عليه. حشد رجال الأعمال يتضخم يوماً تلو الآخر في الصرح البطريركي: كان هناك تاجر الدخان سركيس سركيس فقط بداية، أما اليوم فهناك تسعة أو عشرة مثله. مقابل حشد النواب السابقين، هناك اليوم حشد نواب مستقبليين. ربما لا تصل إلى بكركي إلا الأصداء الشعبية المؤيدة لمواقفها. وعليها يراهن بعض زوار الصرح المقيمين. يسعى هؤلاء اليوم بحسب معلومات «الأخبار» إلى توحيد جهود كل من شارل الحاج وسليم صفير وجيلبير الشاغوري وروجيه ديب ونعمة افرام وفادي رومانوس وعدة رجال أعمال آخرين في لقاء موحد، ينضم إليه ممثلون عن المؤسسات المسيحية المختلفة (روابط ورهبانيات واتحادات أكاديمية) لتكوين تجمع مسيحي قادر على مزاحمة الأقطاب الموارنة الأربعة، أملاً بملاقاة التسوية الإقليمية فور نضوجها في منتصف الطريق.
صحيح أن اتفاق هؤلاء على نعمة افرام أو غيره لتقديمه كمرشح توافقي إلى رئاسة الجمهورية شبه مستحيل، لإيمان كل منهم بأنه أحق من الآخر، إلا أن إقناعهم بكركي بقدرتهم على توفير غطاء مسيحي لمرشح لا يستفز الرأي العام، سواء بماضيه السياسي أو باستزلامه لتيار المستقبل، سيفتح الباب أمام احتفالية بطريركية جديدة. والمشكلة الرئيسية هنا تكمن في إيمان الراعي بقدرته على صناعة رئيس للجمهورية، من دون المرور بعون أولاً ومن دون ربط شخص الرئيس بحكومات عهده المقبل وقيادة الجيش وخطوط حزب الله الحمراء وقانون الانتخابات وكل الملفات الخلافية الأخرى.