«بعنا الروح لنحمي وطنا/ لكــن الخاينيين هم وطّنا
لهم يوم به هرجا وطنّا/ المهند من صريره العقل غاب»
هذا هو «الحِداء» الأخير الذي ردّده الدركي حسن موسى عبد الساتر قبل ساعات من استشهاده، في الثامن والعشرين من نيسان عام 1944. لا زال أخوه محمد عبد الساتر يذكر جيداً كلمات الحِداء من شقيقه، «شهيد علم الاستقلال» الذي سقط برصاص الانتداب الفرنسي «ذوداً ودفاعاً عن كرامة وطن».
قلّة قليلة من اللبنانيين يعرفون شهداء الاستقلال الذين سقطوا على مذبح الوطن. حسن عبد الساتر، ابن بلدة إيعات البقاعية أحد هؤلاء. هو شهيد العلم اللبناني، والاستقلال الذي كان لا يزال حينها طازجاً، عابقاً بدماء العشرات من أبنائه الذين استشهدوا في سبيل نيله. «كُتب التاريخ في الوطن، ذكرت أشياء وغابت عن الذكر أشياء كثيرة»، يقول محمد عبد الساتر عبارته وهو يوغل في ذاكرة الأيام، يستخرج منها صوراً عن أخيه الشاب الذي «أبى أن يُنتزع علم بلاده عن سارية مجلس النواب، ليرفع مكانه علم الانتداب، فسقط برصاص المحتل الفرنسي، شهيداً فداء الوطن».
في ذاكرة الرجل الذي يناهز الثامنة والثمانين من العمر، صورة أخيه حسن، الدركي في فرقة الخيّالة التابعة لقوى الأمن الداخلي اللبناني.

ذلك الشاب الثلاثيني «المحبوب من كل زملائه وأهل القرى التي خدم في مراكزها الأمنية، في راس بعلبك وراشيا وسيار بعلبك». يتذكر بنيته الجسدية وصوته الجهوري «كان إذا غنّى الحِدا بثكنة الشيخ عبدالله، نسمعه بإيعات»، يقول الرجل مبتسماً.
كيف استشهد عبد الساتر؟
يتذكر شقيقه أنه في تلك الأيام، كان يوسف كرم قد فاز في انتخابات فرعية لمقعد في المجلس النيابي، وحدّد موعد أول جلسة للبرلمان بعد الانتخابات بتاريخ 27 نيسان 1944. في المقابل، كانت سلطات الانتداب الفرنسي تحاول النيل من الاستقلال الذي تحقق، إبّان صلاحيات الجنرال الفرنسي كاترو.
نكّست أعلام
الانتداب فوق مبنى أمن عام
بعلبك خلال التشييع

اتخذت الحكومة اللبنانية سلسلة من الإجراءات الاحترازية وطلبت من الدرك تأمين الحماية والدعم من سائر مراكزه ومنها سيّار بعلبك، خصوصاً أن الجيش والأمن العام كانا لا يزالان في يد الانتداب الفرنسي.
يروي عبد الساتر أن أخاه كان مكلّفاً بمهمة في مدينة طرابلس، إثر أحداث حصلت هناك. وكانت طريق عودته من عاصمة الشمال إلى بعلبك تمرّ عبر مدينة حمص، في وقت كان زملاؤه يتحضرون للانتقال إلى مهمة حفظ الأمن في المجلس النيابي، «فما كان منه إلا أن التحق بهم، رغم رفض الضابط المسؤول عنه لكونه كان مكلفاً بمهمة طرابلس».
وصل موكب يوسف كرم الضخم، آتياً من زغرتا إلى ساحة البرج. وكانت في الموكب «مجموعة من المندسين المسلحين، مهمتها التي أوكلها إليها الفرنسي إثارة حالة من الشغب ودخول المجلس النيابي بساحة البرج. حصل هرج ومرج أمام باب المجلس النيابي، وجرى إطلاق رصاص عشوائي من مسلحين في التظاهرة ومن مبنى التلفون الذي يتمركز فيه الفرنسيون، الأمر الذي دفع النواب والوزراء إلى الاختباء داخل زوايا المجلس. في هذا الوقت، كانت عناصر الدرك تجهد، إلى جانب الجندرما النيابية (شرطة المجلس النيابي) في مواجهة المد الكبير من المتظاهرين، وفي منعهم من الدخول إلى البرلمان» يروي عبد الساتر، ويتابع: «خرج رئيس مجلس النواب صبري حماده من المجلس وفي يده العلم اللبناني الجديد، فبادر خيي حسن إلى أخذ العلم من يده في محاولة منه لرفعه فوق سارية المجلس وهو يردد هتافات وطنية، ما دفع حماده للصراخ به «لوين طالع يا مجنون بيقتلوك»، وما كاد ينهي جملته حتى أطلقت النيران عليه، فاخترقت رصاصة خوذته وسقط أرضاً».
يتهدج صوت الأخ، ويشير إلى أن حسن نقل إلى مستشفى «أوتيل ديو» لتلقي العلاج من إصابته الخطرة، لكنه استشهد متأثراً بإصابته في اليوم التالي بتاريخ 28 نيسان 1944.
إلى جانب حسن عبد الساتر أصيب كل من الدركيين الأمباشي ضاهر مشيك، الذي يروى أنه هو من أطلق النار على الجندي الفرنسي الذي اعتلى مبنى البرلمان وحاول رفع علم فرنسا، وأرداه قتيلاً، في حين تشير روايات أخرى إلى أن الصحافي نعيم المغبغب هو من أقدم على ذلك.
تحوّل تشييع الشهيد حسن موسى عبد الساتر إلى «تظاهرة ضخمة كل العشائر شاركت فيها، وتقدمتها خيّالة آل حمية، والجميع كان يرفع العلم اللبناني، ورافقوا جثمانه من بيروت إلى مدينته بعلبك، وقريته إيعات». تدمع عينا الأخ وهو يتذكر مشهد التشييع. يومها، رفعت الأعلام اللبنانية خلال التشييع، ونكست أعلام الانتداب الفرنسي فوق جميع الدوائر، ومنها دائرة الأمن العام في بعلبك، منعاً لحصول أي صدام مع المشيعين الغاضبين. ينهي عبد الساتر كلامه، ويطلق العنان لصوته الذي أنهكته السنون مردّداً «حداءً» للوطن:
وطنّا ع القلب غالي/ وبركان حبّه بالصدر غــالي
ع حب الوطن أقفلت غـالي/ وسكّرت ع حبه كل البــواب