كان من المناسب والملائم للغاية، بالمعنى الأدبي، أن يُختار مروان حمادة لافتتاح جلسات الشهود في المحكمة الدولية. ان شئنا أن نتجاهل الطابع الصوري للجلسات (فأكثر الأدلة والتحقيقات وقضية الادعاء نعرفها سلفاً، وقد سُرّبت الى الاعلام منذ زمن، ونوقشت مطولاً وبالتفصيل)، وأن نعامل الشهادات بجدية كأدلة تقدّم في محاكمة؛ فإن محور النقاش لا يدور عادة، في قضية كالتي أمامنا، حول محتوى الشهادة بقدر ما يتعلّق بصدقيتها – وخاصّة حين تتكوّن من روايات غير قابلة للتحقيق، ومن نوع «أسرّ لي».
قيمة الشهادة ووزنها في حالات كهذه يرتبطان الى حد بعيد بصدقية الشاهد: هل يجدر بنا أن نثق بروايته، أم انّ له القدرة على اختلاق الأمور؟ هل هو معروفُ بالاستقامة والنزاهة، أم يملك ماضياً في قول أشياء متناقضة (أي بمعنى آخر، الكذب)، واظهار قناعات ثمّ ادعاء عكسها مع تغيّر الظروف؟ هل رأيه محايد ومستقل، ام انه ارتبط بصلات مالية مع الشخصيات المعنية بالقضية؟ هل هو شخصٌ نزيه لا يمكن أن ينكث بالقسم، ام من النوع الذي يخرق القوانين وينسّق مع أعداء وطنه في الخفاء، ثم تكشف امره وثائق «ويكيليكس»، مثلا؟
بهذه المقاييس، فإنّ المحكمة التي غاص محققوها في مجتمع السياسة والمال الفاسد في لبنان، وكان انجازها الأبرز خلال سنوات هو اعتقال الأناس الخطأ ثم اطلاقهم، وجرى تسجيل مسؤوليها على الفيديو وهم يبيعون اسرارها وارشيفها - حتى أصبح محتواها بمثابة تسلية تلفزيونية للبنانيين في أمسياتهم -، لا أحد يصلح لتقديمها وتمثيل قضيتها كمروان حمادة.
أثبتت المحكمة، «الخاصة جدا» منذ ولادتها (محكمة دولية تُقام من أجل جريمة اغتيال؟)، ان انتظار حقيقة ومحاسبة منها قد لا يكون مجدياً، لكنها تصلح كأداة؛ وهي بالتأكيد ذات نفع للطاقم الكبير الذي استفاد من مخصصاتها السخية. لا يجوز ابداً الاستهانة بهذا الجانب، فقد صارت هناك صناعة كاملة تدور حول «العدالة الدولية» وتعتاش منها: منظمات ومحامون وخبراء، زادهم هذه المحاكم وعقودها المجزية. تحدثت الصحافة الاميركية أخيراً عن منظمات غير حكومية، استخدمتها ادارة اوباما في ملف سوريا وموّلتها، يقوم عملها على اعداد «ملفات مكتملة» تصلح للتقديم الى المحاكم الدولية، من جمع الأدلة وتوثيق الشهادات الى بناء القضية واثبات الجرم.
بعد سنوات ومئات الملايين من الدولارات ومآسٍ ضربت لبنان وجواره، وسقوط آلاف الابرياء منذ عام 2005 بلا محاكم ولا «بواكٍ»، شفي قسم كبير من اللبنانيين ــ كالصحافة العالمية ــ من كلّ فضول لمعرفة «الحقيقة» وحلّ اللغز. هم فقط يشتكون من كلفة المحكمة التي تخرج من جيوبهم، وملّوا من استعمالها السياسي، ويريدون لهذا العرض السمج أن ينتهي.