شكّلت الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي نكسة كبيرة لأوباما وحزبه الديمقراطي. كانت هزيمة الديمقراطيين منتظرة، ولكن حجمها كان أكبر من المقدر بكثير. وجهد المعلقون، في المشرق العربي على الأقل، لتحميل السياسة الخارجية الأميركية مسؤولية هذا الفشل الديمقراطي. أبرزت هذه التعليقات ضعف الأداء العسكري الأميركي في مواجهة النظام السوري والجمهورية الإسلامية الإيرانية. وركزت تعليقات أخرى على العلاقات الأميركية- «الإسرائيلية» المتعثرة، وتأثير ذلك في موقف قوى الضغط اليهودي في أميركا.

لكن الضعف الأميركي، أو بالأحرى انخفاض منسوب العدوانية الأميركية، ليس نتاج سياسة أوباما، بل نتيجة مسيرة انحدارية للقدرات الأميركية الشاملة، ونتيجة تحوّلات كبيرة في موازين القوى، في ظلّ النظام الرأسمالي العالمي، والتي ما زالت أميركا تتربع على عرشه.
عبّر هنري كيسنجر، مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي ووزير خارجية أميركا في السبعينبات، عن أن الولايات المتحدة قد تجاوزت ذروتها التاريخية، مثل العديد من الحضارات السابقة. ويعبّر أوباما، كممثل للمصالح الشاملة للرأسمالية الأميركية، عن واقع هذا الانحدار بعقلانية وواقعية.
لكن السياسة الخارجية الأميركية لم تكن الهمّ الطاغي والمسيطر، والموجّه لخيارات الناخبين الأميركيين. فمنذ اشتداد الأزمة البنيوية الدورية للنظام الرأسمالي العالمي، أصبح الهمّ الاقتصادي لدى الأميركيين هو الطاغي والموجّه لخياراتهم الانتخابية. وتحمّل الجماهير المأزومة، والقلقة على مصيرها الحزب الحاكم مسؤولية تردّي أوضاعها، وتعمل على تبديل حكامها. هذا ما شاهدناه في الدول الأوروبية المأزومة، وهذا ما نشاهده في أميركا اليوم. فمنذ أواسط عام 2011، أظهر استطلاع للرأي العام الأميركي أجرته مؤسسة (PEW)، المعروفة، أنّ 84% من الأميركيين يعتقدون أنّ فرص العمل يجب أن تكون أولوية لدى الرئيس أوباما، وكانت نسبة البطالة قد وصلت إلى 9.4% بوجود 14 مليون عاطل عن العمل، بحسب الأرقام الأميركية المعلنة.
كان تركيز أوباما، منذ وصوله إلى الحكم عام 2008، على معالجة المشاكل الاقتصادية، إذ إن السياسة الخارجية الأميركية، وقدرات إدارتها، السياسية والإعلامية والأمنية والعسكرية، هي في خدمة الاقتصاد، وهي نتاج تطوّره في الوقت ذاته.
ورغم تردّي جميع مقوّمات الاقتصاد الأميركي، أصرّت القيادة على أنّ القرن الحالي سيكون قرناً أميركياً بامتياز، وأنّ مشاكل أميركا الاقتصادية عابرة، وترفض الاعتراف بطبيعة الأزمة البنيوية الدورية الطويلة المدى. وبالتالي، فإن جميع الإجراءات التي اتخذتها الإدارة، بما فيها سياسة التيسير الكمية (quantitative easing) فشلت في انتشال الاقتصاد الأميركي من انكماشه وركوده. وللبقاء في سدّة الحكم، لجأت الإدارة الأميركية إلى تحريف وتزوير المؤشرات الاقتصادية، وهي ذات خبرة تاريخية في هذا المجال.
في عام 1954 كتب داريل هاف، تحت عنوان «كيف تكذب الإحصاءات» للوصول إلى الأرقام التي تريدها، وقال إن الدجالين يعلمون جيداً تلك الخدع، وإنّ على الرجال الشرفاء تعلم ذلك، للدفاع عن الذات. ولطمأنة الجمهور، أعطى مكتب التحليل الاقتصادي الأميركي (BEA) أرقاماً مضللة خلال سنوات الانكماش الاقتصادي، حول تراجع الناتج المحلي الأميركي. أصدر المكتب تقديره عن معدل الانكماش خلال الفصل الرابع من عام 2008، والمنشور في كانون الثاني 2009، وقال إن الانكماش في الناتج بلغ 3.8%. لكن بعد مدة، وبعد المراجعة الأولى، أصبح هذا الرقم 6.8%. وبعد مراجعة ثانية، أصبح الرقم 8.9%! أي أن الناتج المحلي القائم تقلص بنسبة 8.9%، وليس بنسبة 3.8% عام 2008. (الإيكونوميست، 6 آب 2011)
وبما أن معدلات البطالة والتضخم، ومتغيرات الناتج المحلي تمثّل كوابيس الأميركيين وقلقهم على مستقبلهم، تعمد الإحصاءات الرسمية على تزوير هذه الإحصاءات بشتى الوسائل. فمقياس التضخم، والمعتمد بشكل واسع(core inflation) لا يشمل الطعام والوقود. وعبر تخفيض معدل التضخم الحقيقي، تخفي السلطة معدلات تدهور القدرة الشرائية للرواتب والأجور، وتقوم بتضخيم الناتج المحلي القائم.
وبما أنّ معدلات البطالة تمثّل الهمّ الأوّل للأميركيين، تعمد السلطات إلى تزوير أرقامها، وتضع مقاييس عدة وتعريفات لها. فمقياس (U3) للبطالة، المستعمل في وسائل الإعلام كافة، وصل في ذروته إلى 9.2%، في شهر حزيران 2011. ولكن هذا المؤشر لا يشمل العمّال الذين توقفوا عن البحث عن عمل، أو الذين تجاوزت مدّة بطالتهم 6 أشهر. فهناك مؤشر (U6) الذي يشمل العمّال الذين كفوا عن البحث عن عمل في المدى القصير. وصل هذا المؤشر إلى 16.2%، في حزيران 2011! ويقول الإحصائي، جون وليامز، إنّه إذا أضفنا، إلى مؤشر البطالة الأخير، العمّال الذين كفوا عن البحث عن عمل على المدى الطويل، أي المقياس الشامل للبطالة، فإنّ الرقم يصل إلى 22.7% في حزيران 2011! (بول كرايغ روبرتس، غلوبال ريسيرتش، 30 تموز 2011)
تقول الإحصاءات الرسميّة الأميركية إنّه، وبسبب سياسات التوسّع النقدي الأميركي، فإنّ الاقتصاد الأميركي خرج من الركود، ويحقق معدلات نموّ جيدة. وبذلك، انخفض معدل البطالة (U3) من 9.2% إلى أقل من 5%، في الوقت الحاضر. تقول مجلة «الإيكونوميست» الشديدة الحماسة للتفوق الأميركي (عدد 21 أيلول 2013) إنّ معدل نمو الوظائف قد تباطأ، وتوقف انخفاض معدلات البطالة من قبل عدد الأشخاص الذين توقفوا عن البحث عن عمل، وإنّ عدد العمال العاملين فعلياً انخفض، في شهر آب 2013، إلى 63.2%، وهو المعدّل الأدنى منذ 35 سنة، أي أنّ نسبة البطالة كانت في ارتفاع مستمر، وليست في منحى انخفاضي خلال السنوات السابقة، كما تدعي الإحصاءات الرسمية الأميركية. وتقول المجلة نفسها (28 أيلول 2013) إن ارتفاع عدد المسجلين كمعوقين، والذين يأخذون بدل بطالة، دون البحث عن عمل، يفسّر تدني معدلات البطالة الأميركية. فقد ارتفعت نسبة المسجلين كمعوقين، وهم في سن العمل، من 1.3% عام 1970، إلى 4.6% عام 2013. وإذا أضفنا الفارق بنسبة المعوقين أي 3.3% إلى حوالى 6%، وهي نسبة البطالة عام 2013، فإنّ معدل البطالة للمؤشر المعتمد لدى وسائل الإعلام (U3)، تكون نسبة البطالة قد ارتفعت من 9.2% إلى 9.8%. أما البطالة الشاملة الحقيقية، فتكون بحدود 25%، أو أكثر!
إنّ اعتماد سياسة التيسير الكمّي، أي ضخ تريليونات الدولارات إلى السوق المالية، لم يرفع الطلب على التوظيف المنتج، ولم يرفع الطلب على الاستهلاك بشكل يسمح بخفض حقيقي لنسبة البطالة، وبزيادة حقيقية في الناتج المحلي القائم. فالطلب على التوظيف المنتج لا تحدده بشكل أساسي معدلات الفائدة الحقيقية، والتي أصبحت سلبية خلال السنوات الماضية، بل الربح المتوقع للتوظيف، والذي يعتمد بشكل أساسي على نموّ الطلب. وغيرت السلطات الأميركية طريقة احتساب الناتج المحلي، إذ أدخلت في احتسابه بعض النشاطات المنزلية، أي بعض الخدمات خارج السوق، عام 2013. وبعد سنة تقريباً، تبعت السوق الأوروبية المشتركة هذه الحيل الإحصائية، في تضخيم الناتج المحلي باحتساب أموال البغاء والمخدرات في الناتج المحلي القائم.
أحدثت سياسة التيسير الكمّي، بجانب فشلها في خفض معدلات البطالة، ورفع معدلات النمو، فوائض مالية كبيرة تبحث عن مجالات التوظيف المجزي، فتوجهت نحو المضاربات التي أدت إلى ارتفاع مصطنع لأسعار الأسهم والسندات، وبالتالي تأسيس فقاعات اقتصادية جديدة تُحدث عند انفجارها انهيارات جديدة في الأسواق، كما حدث أواخر سنة 2007. فقد ارتفع مؤشر (نازداك) في شهر تشرين الثاني 2013، إلى حوالى 4 آلاف، لأول مرة منذ 13 سنة، وبنسبة 34% في تلك السنة؛ كما ارتفع مؤشر (ستاندارد آند بور) بنسبة 27% أيضاً، على سبيل المثال. كما أدت سياسات التيسير الكمّي إلى نموّ عدم المساواة في الثروات والمداخيل، وأرسلت «أموالاً ساخنة» إلى الأسواق الناشئة، مما يهدّد استقرارها.
لكن تزوير الإحصاءات لم يقنع الجماهير الأميركية، إذ أن الحقائق لا تغيرها الإدعاءات المخادعة. والإحصاءات الملتوية لا تغير من معاناة العاملين والباحثين عن عمل. فقد كان عدد طالبي قسائم الطعام 26.6 مليون سنة 2007، وارتفع إلى 45.3 ملايين سنة 2011، ثم إلى 47.8 ملايين أواسط سنة 2013! (الإيكونومست، 28 أيلول 2013) كان ربع الأميركيين عاجزون عن الإنفاق الطبي سنة 2012، ولم يكن لدى 45 مليون أميركي تأمين صحي. تقول الصحيفة الأميركية، «ذي أتلانتيك»، إن أكثر من 100 مليون أميركي على وشك الانزلاق إلى ما دون عتبة الفقر، و70% من هؤلاء هم من النساء والأطفال. (الحياة، 29 كانون الثاني 2014)
نتيجة هذه المعاناة والمخاوف، أسقط الناخبون الأمركيون مرشحي الحزب «الديموقراطي» في انتخابات الكونغرس، بالرغم من أن الحزب «الجمهوري» لم يطرح سياسات اقتصادية بديلة مقنعة، لكنه شدّد على فشل سياسات أوباما والحزب «الديموقراطي» في حملاته الانتخابية. فمعنويات أصحاب المداخيل المتوسطة منخفضة جداً، لا تقنعها الإحصاءات الرسمية، وتنمّ عن قلق كبير من المستقبل. وأظهر استطلاع لرأي الناخبين، يوم الاقتراع، أنّ ثلثي الأميركيين يتوقعون أن تكون أوضاع أبنائهم الاقتصادية أسوأ من وضعهم الآن. وبلغت نسبة الأميركيين الذين يثقون بالكونغرس 7% فقط، ويعتقد هؤلاء الناخبين أنّ البلد يسير على الطريق الخاطئ، ويحمّلون الرئيس وحزبه مسؤولية ذلك.
«إنه الاقتصاد، أيها الغبي»!
* كاتب لبناني