يحدد قانون الموارد البترولية (قانون رقم 132 تاريخ 24/8/2010) وجهة استعمال العوائد المتأتية من استخراج الثروة النفطية الموعودة، واستثمارها في صندوق سيادي استثماري للأجيال المقبلة. الواضح أن الدولة سائرة في اتجاه تأسيس هذا الصندوق السيادي. إلا أن التشريعات الخاصة بآليات عمله والرؤية الاستراتيجية لاستثمار العوائد النفطية لا تزال غير مكتملة. كذلك لا بد من توضيح كيفية السماح للدولة باستثمار جزء من العوائد لتجنيب الاقتصاد أية انعكاسات سلبية، كي لا ننتهي إلى اعتناق سياسات نقدية تعقّم السيولة الوافدة وتبعدها كلياً عن عملية تطوير إنتاجية الاقتصاد وتكبيره.
في معرض تقديمهما توصيات أولية للصندوق السيادي الخاص بلبنان، يطرح الباحثان اريك لو بورنيو (البنك الدولي) وابراهيم الجمالي (الجامعة الأميركية في بيروت) جملة من التساؤلات والمخاوف عن إمكانيات النجاح بإدارة هذا النوع من الصناديق في ظل ضعف الواقع المؤسساتي في لبنان، وتدني ترتيبه من حيث مؤشرات الحوكمة، وارتفاع «مؤشرات مدركات الفساد» عموماً. بالإضافة الى قابلية مرتفعة «للنزاع الأهلي/المذهبي». يدعم الباحثان مخاوفهما بجملة من الأدلة الإحصائية التي تستخلص من تجربة بلدان أخرى في مجال إدارة الصناديق السيادية، بناءً على قاعدة بيانات تضم معلومات عن الصناديق الاستثمارية في 85 بلداً، بالإضافة إلى قاعدة بيانات مؤشرات مدركات الفساد. يتوقع البحث أن يأتي أداء الصندوق السيادي اللبناني متواضعاً من حيث الفعالية. كما هو الوضع في دول كتيمور الشرقية وليبيا وغينيا الاستوائية.
استعمال الصندوق لأغراض التثبيت المالي يؤدي إلى خسائر

الا أنه يخلص الى إمكانية تحسين أداء الصندوق اللبناني إذا ما استُفيد من جملة الدروس المستقاة من تجارب الدول النامية في هذا المجال. ويخلص الباحثان إلى جملة من التوصيات، منها:
- ضرورة الفصل ما بين الجهة المالكة للصندوق، وهي الدولة (متمثلة بالحكومة) والجهة المسيرة له (مجلس الادارة). بالتالي لا بد من إعطاء قدر من الاستقلالية لمجلس الإدارة وتحييده عن التدخلات السياسية.
- اعتماد نظام توظيف يقوم على الشفافية واختيار الكفاءات. كذلك «لا يجوز أن يخضع تعيين الموظفين للتدخلات السياسية والاعتبارات الطائفية والمذهبية».
- أن يعطي تصميم الصندوق أولوية قصوى «لاعتماد ادوات رقابية صارمة» لإدارة عمليات السحب واستعمال احتياط النقد المتوافر في الصندوق بما يتماشى مع اهدافه التي ينص عليها القانون.
- الانتباه الى أن استعمال أموال الصندوق «لأغراض التثبيت المالي (توازن الموازنة)» قد يؤدي الى خسائر مهمة على مستوى تحقيق أهدافه المجتمعية كخدمة الأجيال القادمة.
- ضرورة أن يتم استعمال عوائد الصندوق داخل الموازنة العامة وليس خارجها. و»ليس أيضاً الى صندوق خارج الموازنة».
- أن تتناسب استراتيجية الاستثمار الخاصة بالصندوق مع استراتيجيات البلاد الاستثمارية والادارة المالية وإدارة الموجودات. وبالنظر إلى حجم الدين العام اللبناني، ترتدي هذه التوصية أهمية خاصة لما يمكن أن يشكله هذا الموضوع من استنزاف لموارد الصندوق.
- يمكن، ضمن خطة واضحة وبمعايير استخدام صارمة، استخدام جزء من هذه العوائد لخفض نسبة الدين العام لحجم الاقتصاد. الا أن هذا الخيار يجب أن يكون محدداً من حيث الأهداف والمدة الزمنية. اذ بعد فترة معينة يجب التوجه نحو تعظيم حجم احتياط الصندوق من الأصول وتعظيم ربحيته.
تشكل هذه التوصيات نوعاً من الوصايا التي يجب التعمّق فيها والانطلاق منها لتصميم صندوق ادخار يتفادى المطبات التي وقعت فيها دول نامية أخرى. ويتعلم من ممارسات ناجحة لدول مثل النروج. إلا أن التحدي الأساس للتجربة اللبنانية الموعودة يبقى خارج المقاربة التقنية. وأبعد من تحسين مؤشرات الحوكمة والفساد. فلو جمعنا أفضل الخبرات العلمية، ووضعنا أكثر الاستراتيجيات رصانة، سنبقى غير قادرين على إنجاح هذه التجربة إذا لم تتوافر الإرادة السياسية الحقيقية التي تتخذ القرار باستثمار هذه العوائد في تحسين نوعية حياة اللبنانيين. وهذا نقاش لا بد من فتحه عاجلاً في محاولة لخلق رأي عام يطالب باستراتيجية استثمارية واضحة المعالم للاستفادة من الريع النفطي بما يحسن من رفاهية الحياة ويزيد إنتاجية الاقتصاد وبما يضمن تحقيق ميزة تفاضلية للبلاد.
إذا أردنا خدمة الأجيال القادمة وتحسين مستويات عيشها، فما هو السبيل لذلك؟ وهل يكون من الأجدى مراكمة الاحتياطات لتتحول ما يشبه احتياط الذهب، الذي يشكل جزءاً من ثروة البلاد المحيّدة عن عملية تفعيل الإنتاجية وتطوير الاقتصاد؟ أم أنه يمكننا استثمارها في استراتيجية تنمية اجتماعية واقتصادية متوسطة وبعيدة الأمد، يكون من ضمنها إعادة تصميم نظام التغطية الصحية ليشمل جميع اللبنانيين، وتطوير قدرات البلاد في مجال الأبحاث وتطوير التقانة خاصة؟ علماً أنه يمكن البلاد أن تحقق ميزة تفاضلية في هذا المجال إذا ما توافرت الإرادة والاستثمارات المناسبة، مع ما يمكن أن يتركه خيار كهذا من أثر على إجمالي الإنتاجية وعرض العمل.
كثيرة هي الأسئلة الممكن طرحها حول طبيعة الخيارات الممكن اتباعها لاستثمار الثروة النفطية. الا أن السؤال الأبرز الذي يبقى على اللبنانيين مسؤولية الاجابة عنه: هل حقيقة تثقون بأن من بين الطيف السياسي الحالي من يمكن ائتمانه على مستقبل أولادكم والأجيال القادمة؟