بين الاعترافات النصفية لمروان حماده في لاهاي، و22 تشرين الثاني، الناقص رئيساً ودولة ووطناً واستقلالاً في بيروت، كان حرياً بمدارسنا، كل مدارسنا، خصوصاً تلك الطائفية والمذهبية والوطنجية منها، أن تستعيض عن يوم العطلة، بسبت تدريس استثنائي، مخصص لأوهام الاستقلال وأكاذيبه. منهاج كامل لست ساعات، يمكن توزيع مواده على أكثر من حصة وفقرة ومادة وتمرين وتدريب.
مثلاً يبدأ النهار بالسؤال عن مدى قابلية نشيدنا الوطني لآنية المعنى والمضمون الراهنين. ما لا يزال صالحاُ منه وما فقد كل معنى وصلاحية، أو صار بين المخالفة والتخلف: يُسأل المتعلم في مرحلة الابتدائي مثلاً: هل تفضل أن نكون كلنا «للوطن للعلى للعلم»، أم أن يكون لك ميثاق ينص على «الحق في سعي المواطن إلى الخير والسعادة»، كما كتب جفرسون مثلاً؟! وسط الإحراج المتبادل، يطرح سؤال ثان مخصص للمتعلمات: حين يقول نشيدنا أن «سهلنا والجبل منبت للرجال»، هل توحي لكنّ تلك الكلمات بتمييز جندري وبوطن ذكوري وبمجتمع يشرع في نشيده ودينه العنف ضدكن؟ أم يدفعكن معناها إلى البحث عن أي «منبت» ترك لكن الوطن لتنبثقن منه؟! يبقى سؤال أخير للصفوف الثانوية: ما معنى «رفده بره»، وكيف أن لبنان «درة الشرقين» و»مالئ القطبين»؟ إشرح وناقش. وإذا أقنعت ـــ أو اقتنعت ـــ تربح فوراً إجازة جامعية، بالإفادة أيضاً ومن دون أي امتحان، ومن جامعة لم ترخّص بعد، رغم حيازة تاجرها للقلم الذي تحدث عنه النشيد!
في حصة استقلالية ثانية، يُفتح كتاب التاريخ ــ الحقيقي ــ يقرأ الطلاب من مآثرنا الاستقلالية، ويطلب من كل متعلم إعطاء تطبيق حالي معاصر، لتلك الأمثلة البطولية: سنة 1920، ومن أجل تجسيد خطة فرنسا وبريطانيا في إقامة لبناننا الكبير، تسابقت فرقاطات باريس ولندن على استيراد ابطال الاستقلال الأول إلى بيروت. جاء الفرنسيون برجلهم اسكندر عمّون وجعلوه وجيهاً وناشطاً سياسياً. فسارع الانكليز الى الإتيان بشقيقه داود لمنافسته وقطع الطريق عليه. ولما أنهك الاثنان جاء اميل اده على متن البارجة الفرنسية زعيماً مؤسساً للوطن الأول... السؤال: أعط نصف دزينة من الأشقاء الحاليين الذين تنطبق عليهم تلك المآثر الاستقلالية نفسها. وسمِّ خمسة مؤسسين استقلاليين حاليين، تم استيرادهم لتجسيد الاستقلال الثاني، مع تحديد دول المصدر والمنشأ!
حصة استقلالية ثالثة، تسرد كيف أنه حين احتدم الصراع بين الغرب وفيصل، لم تكن موازين القوى واضحة لأبناء «أسد الغاب متى ساورتنا الفتن». فصار هؤلاء في حال من الضياع، يخشون ان يكون النصر في مكان وتموضعهم في مكان آخر. إلا ان كثيرين منهم حلوا تلك المعضلة. مثلاً، يوسف نمور التحق بالمعسكر السوري العربي. بينما شقيقه بشاره بك نمور، ركناً لدى المعسكر الفرنسي اللبناني، عاملاً من قبله على البقاع. كذلك محمد سعيد حماده مع سوريا. حفيده صبري مع قصر الصنوبر. حتى أن أحد النواب واجه عند استحقاق رئاسي مأزقاً من نوع الازدواجية الحياتية نفسها. لكنه وجد حلاً لها بذاته، ومن دون أخ ولا شقيق. علّق قبعته عند مرشح، وتسلل إلى منزل منافسه. في المعسكر الأول شاهدوا القبعة فحسبوه معهم. وفي المعسكر الثاني شاهدوه حاسراً، فاكتفوا، ولم يخسر بمجرد هواية العدو ليلاً، اياً من العدوّين... سؤال إلى طلاب الحضانة: أي صفة يمكن إطلاقها على هذا السلوك الأخلاقي؟!
حصة رابعة عن روائع الاستقلال: سنة 1929 جاء جورج لطف الله من القاهرة الى بيروت. كان الرجل ثرياً كبيراً في بلاد النيل. حتى أقنعه بعض المستكتبين والمسترزقين اللبنانيين بأن شرعية ثروته لا تتوج الا بنيله لقب ملك لبنان. في هذا الوطن العظيم أنفق الرجل أمواله. بين هدايا للفرنسيين والسياسيين والروحيين وعشيقاتهم كافة. حتى مات موضع سخرية وشماتة من هؤلاء أنفسهم، ولا لقب ولا قلوب... السؤال: أي كوبليه من نشيدنا الوطني يبرر ذاك الحدث الاستقلالي؟!
يمر نهار السبت بسرعة. لا تكفي الساعات الست لإعطاء الحصص الاستقلالية المقررة: كيف كانت عشيقة دي مارتل تدير كل البلاد ويستعبد لها طوعاً كل العباد. وكيف كان المفوض الفرنسي يزدري إكليروس الموارنة، كما كرر شيراك نفسه الشعور ذاته خطياً بعد سبعين عاماً، وكيف ظل الموارنة مرضى بالوسواس القهري للأم الحنون.
في حصة أخيرة، يدخل على طلاب سبت الاستقلال أستاذ جدي. يقرأ لهم من كتاب جايمس بار الأخير: «خط على الرمل». يكتشف المتعلمون كيف أن لندن أعطت فلسطين للصهاينة، وهي تعتقد أن العرب سيكونون شاكرين لها، لأنها ضخّت في منطقتهم دينامية اقتصادية وثقافية يحتاجونها. ولما أدرك الإنكليز خطأهم، كان ديغول المقيم عندهم قد تحول ضيفاً مزعجاً. فقررت حاشية تشرشل أن تضرب عصفوين بحجر واحد: تحريض اللبنانيين على الاستقلال عن فرنسا، كي ينسى المشرق نكبة فلسطين، وتنهمك ميغالومانيا ديغول بغير مقارعته لمملكة الشمس... يذهل المعلم حيال سؤال أحد المتعلمين النبهاء: هل تقصد أستاذ أن استقلالنا صنيعة هتلر وبن غوريون؟!
عند قرع الجرس إيذاناً بانتهاء اليوم الاستقلالي الدراسي الطويل، يتهافت المتعلمون على السلالم في الأروقة والملاعب، منشدين معاً بروح وطنية عالية: يا زمان الطائفية...
5 تعليق
التعليقات
-
مقال رائعع أستاذ جان.مع أننيمقال رائعع أستاذ جان.مع أنني اختلف معك في الرأي السيايسي، إلّا أنني أرفع لك القبعة على هذا المقال.
-
ولماذا لم تذكر مصدر معلوماتكولماذا لم تذكر مصدر معلوماتك يا استاذ جان. لا بد وان اسكندر رياشي يتقلب في قبره.
-
نقد!هذا اهم نقد لما يعرف بالوطن اللبناني لان الكاتب يصارح نفسه قبل الاخرين وهكذا تكون البداية في بناء الوطن واستعادة المواطنين من الجاليات الطائفية التي تسيطر على مقدرات وارادات البلد والناس ونتمى ان يكون هذا المقال موضوع تحليل لكل الصفوف الثانوية لعلنا نستطيع ان نقول: كلنا للوطن للعلى للأمل مرفوعين الرأس ونترك الهبل ايد بايد نبني من السهل للجبل
-
حلو جدا تساءلت وفي سن مبكرة عن معني ومغزي كلمات النشيد الوطني اللبناني ؟! وما زلت اتساءل ليومنا هذا. استنتجت وباكرا ايضا انه صف حكي بلا طعمه. اما الاستقلال فهو سوْال اخر: اي استقلال ومن من تحررنا ؟؟؟ الأفضل تسميته مسخره الاستقلال
-
أكاذيب الاستقلالينالاستقلال الحقيقي يُنتزَع من الشعب ولا يحصل بالتراضي مع النُخب. لذالك، ومع الأسف، لم يكن لبنان مستقلاً يوماً. كان وما زال ورقة تلعب بها تلك النخب على أهواء مصالح الدول المتسلطة. لذالك لم تستطيع تلك التخب أن تتفهم أن حزب الله هو فعلاً حركة تحريرية، وعمدت على محاربته ،وما تزال، بكل الوسائل، وأولها الطائفية البغيضة، لأنه يتعارض مع مصالحها.