القاهرة | تضيق الخيارات المتاحة أمام جماعة «الإخوان المسلمين» بمرور الوقت، وتتآكل الرهانات عليها وعلى قوة موقفها في صراعها الممتد منذ أكثر من عام مع النظام المصري. وجاءت المصالحة القطرية ـ الخليجية، ثم القبض على آخر قيادي إخواني مصري بقي داخل البلاد، محمد علي بشر، ليعكسا تراجعاً كبيراً في موقف الجماعة وقوتها.
حتى الآن، وبحسب مصادر إخوانية داخل مصر وخارجها، لم تطلب قطر من أيٍّ من كوادر «الإخوان» على أراضيها الرحيل بعد القيادات التي جرى ترحيلها، قبل شهرين، ومنها الأمين العام للجماعة محمود حسين وأشرف بدر الدين ووجدي غنيم، لكنها حالياً لم تبلِّغ الموجودين بأي تغيير على وضعيتهم وإقامتهم داخل أراضيها.
ورغم التطمين القطري للجماعة، لا يمكن للمراقب ألا يلاحظ تراجع الحماسة القطرية إزاء دعم «الإخوان». بعد خسارة رهانات الدولة الخليجية عليهم خلال أكثر من عام، لم تنجح فيه الجماعة ولا حراكها المستمر في الشارع في انتزاع أي مكسب أمام النظام المصري الذي، رغم معاناته من قلاقل اجتماعية وأمنية واقتصادية، يبدو محققاً لما يريده من خطوات في صراعه ضد الجماعة. فهو حلّ الجماعة وحظر حزبها «الحرية والعدالة» وصادر أموالها وأملاكها، وتمكن من القبض على قياداتها ومحاكمتهم، ونجح في السيطرة على الحراك الطلابي في الجامعات، إما بالقمع الأمني للمظاهرات أو بالأحكام القاسية التي تصدرها السلطات القضائية ضد الطلاب المتظاهرين، في سلسلة إجراءات اتخذها النظام، وكان آخرها اعتبار الجامعات منشآت عسكرية، وهو ما يعني أن من يُقبض عليه في تظاهرة داخل الجامعة سيحال تلقائياً على القضاء العسكري.
لا يمكن المراقب ألا يلاحظ تراجع الحماسة القطرية إزاء دعم «الإخوان»

لا تتوقع المصادر تراجعاً صفرياً للدعم القطري لـ«الإخوان المسلمين»، إذ إن العلاقات الطيّبة مع جماعات «الإسلام السياسي» هي أحد محددات العلاقات الخارجية لقطر، إلا أن المصادر ترى، في الوقت نفسه، أن «لا أحد يراهن على جواد خاسر»، في وسط إقليم يواجه موجة عاتية من التغييرات والتهديدات، فيما لم تتمكن الجماعة، على مدار أكثر من عام، من تحقيق أي مكاسب تغري الداعمين لها من خلاله بالمحافظة على استمرار الدعم.
يصعب الوصول إلى الدوافع الحقيقية لدى السلطات المصرية للقبض على محمد علي بشر. فالرجل لم يكن هارباً، ولم يكن مطلوباً، كذلك كان محل عمله وسكنه معلومين للجهات الأمنية، إضافة إلى أنه ظلّ لمدة عام كامل «همزة الوصل» بين الجماعة والسلطة. كذلك، لقد سمحت له الحكومة بلقاء عددٍ من الوفود العربية والأجنبية التي زارت القاهرة عقب عزل الرئيس محمد مرسي، كذلك طُلِبت شهادته رسمياً في لجنة تقصّي الحقائق المشكَّلة من قبل السلطة للتحقيق في الأحداث التي أعقبت «30 يونيو»، وحتى بعد اعتذاره عن الشهادة بزعم توظيفها سياسياً لم يُقبض عليه.
اعتقال بشر يضعنا أمام احتمالين: الأول، أن السلطة أرادت بعث رسالة للجماعة مفادها أن التصالح مع قطر لا يعني بالضرورة التصالح مع «الإخوان». وثانياً، قد يكون اعتقال بشر ضغطاً على الجماعة حتى تقبل بالتصالح، في إطار حالة الارتباك التي تسود أجهزة الدولة استعداداً لتظاهرات «28 نوفمبر» التي دعت إليها «الجبهة السلفية المصرية»، وترفع، لأول مرة، راية دينية إسلامية خالصة. ومع هذه الترجيحات، لا أحد يعرف الحقيقة، في ظلّ التناقضات والارتباكات التي تحكم أداء السلطة، ولا أحد يملك الإجابة اليقينية عن نية الطرفين في المصالحة، فالرسائل والإشارات والتحركات على الأرض يتناقض بعضها مع بعض، فالنظام الذي أفرج قبل أيام عن المتحدث الرسمي باسم الرئيس المعزول محمد مرسي، ياسر علي، عاد ليعتقل بشر.
تنعكس كل هذه المآزق على «الإخوان المسلمين» لتزيد من أزمات التنظيم الذي يشهد حالة من الغليان داخل صفوف قيادات الصف الثاني والثالث منه في الداخل، وصلت إلى حدّ تجميد بعض القطاعات لتواصلها مع «الإخوان» في الخارج، ورفض المشاركة في الفعاليات التي تنظمها الجماعة على الأرض، إما احتجاجاً على سوء إدارة العملية برمتها، أو اقتناعاً بأن الأثمان الفادحة التي يدفعها التنظيم لا تتناسب مع أي مكاسب حققتها الجماعة.
وبحسب المعلومات، دعا القطاع الأكبر من شباب الجماعة، في رسائل عبر الأطر التنظيمية وأخرى نشرتها وسائل الإعلام المصرية، إلى تغيير قيادات الجماعة، وتعويم آخرين قادرين على إدارة الأمور وحسمها، إما نحو المصالحة أو الاستمرار وفق خريطة وأفق واضحين للصدام مع النظام.
يبدو مفهوماً حرص قيادات «الإخوان» على استمرار الصدام مع الدولة هروباً من الحساب التنظيمي على كل ما جرى عقب «ثورة 25 يناير»، والمسار المهلك الذي انتهجته الجماعة وأودى بها من هرم السلطة إلى ظلمات الزنازين. فالدفع بالتنظيم إلى أتون معركة ورفع شعارات المظلومية التاريخية والثأر للشهداء والضحايا والمصابين، كفيلان بإسكات أي أصوات تطالب بمحاسبة القيادة، «فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وهو خيار أثبت «نجاحه» على مدار عام. إلا أن من غير المرجّح استمراره، خصوصاً مع أزمات اجتماعية ومالية تواجه أسر المعتقلين والشهداء، في ظلّ الزيادة في أعداد الموقوفين وتراجع الدعم المالي من الجماعة لمنتسبيها، نتيجة زيادة عدد من يكفلهم التنظيم بسبب غياب عائلاتهم.
مستقبلاً، تبدو الجماعة أمام ثلاثة خيارات، إما ثورة على القيادة داخل التنظيم ومحاسبتها على كل ما جرى، أو انشقاق عريض من التنظيم في ظلّ وجود مجموعة من كوادر الجماعة نُقِل عنها اعتراضها على سوء الإدارة، بينهم جمال حشمت ويحيى حامد، أو بقاء الحال على ما هي عليه ومرواحتها في المكان نفسه من دون أي نتائج، ومن ثم الانفضاض التدريجي عن الجماعة، والإعلان الصريح عن فشل مشروعها.
قد يكون إدراك بعض قيادات الجماعة لهذه الأزمات هو الدافع الوحيد وراء البيان الصادر عنها يوم أمس، والذي قدّر دعوة عدد من الكيانات والشخصيات الوطنية إلى الوحدة ضد السلطة الحالية، والاعتراف بالخطأ، وهو ما قابلته الجماعة في بيانها بتثمين «كل ما جاء في هذا البيان، والتجاوب معه بكل صدق وإخلاص وإيجابية، واعتراف الجميع بأخطاء الماضي خلال مسيرة العمل الثوري والعمل على تجاوزها، والنظر إلى المستقبل من أجل تحقيق أهداف «ثورة يناير»، في تغير واضح للهجة الجماعة وخطابها.