لا يبدو الاستثمار في سهم لبنان مغرياً بأي شكل في هذه اللحظة. ولكن ماذا عن الاستثمار في بورصته؟ سوق بيروت المالية التي كادت أن تبني أمجاداً عشية الحرب المشؤومة هي اليوم عبارة عن إطار مؤسساتي أنيق إنما بأروقة فارغة، لا من يساهم فيها ولا من يتداولون. في انتظار الفرج الذي يُمكن أن يؤمنه إقرار قانون الأسواق المالية.
هذا باختصار ما يُمكن ملاحظته بعد استعراض سريع لحالة هذه السوق التي كانت تعد بتعزيز مكانة لبنان بصفته واحة مالية عربية. سال حبر كثير عن أفق السوق، دور الشركات، ومخططات واضعي القوانين ومنفذيها حول المستقبل المرجو في هذه الواحة المالية التي ضربها الجفاف.

الحلم والحقيقة

بدا الحلم بمتناول التحقق عندما حلّ ربيع السيولة المالية على لبنان غداة الأزمة المالية العالمية التي لم توفر الواحة الخليجية المنافسة الأولى، دبي. غير أن التعقيدات ما انفكت تظهر، ليست موضوعية فقط بل لها علاقة بتركيبة النظام الحالي: البورصة هي حدث جديد على المشهد وبطبيعة الحال فإنّ تطورها لا يُمكن أن يتم إلا عبر مراعاة مصالح اللاعبين الأساسيين فيه حالياً.
طبعاً الحديث هنا هو عن المصارف التي بدت لوهلة أنها تعارض التطوير السريع لسوق مالية تتمتّع بحيثية ائتمانية في إطار سوق مفتوحة، كون هكذا حيثية تؤثّر على نحو جدي على نموذج عمل المصارف.
تنفي البنوك أن تكون قد ناصرت تياراً ضدّ تطوير بورصة العاصمة اللبنانية العتيدة. برأيها، فإنّ تطوير عمل السوق يُخفف عنها أعباء تمويل الاقتصاد، بقطاعيه العام والخاص، على النحو التقليدي، بل حتّى يُمكنها من المشاركة في هذه العملية عبر التداول الحر والتسنيد القائم على المنافسة. على أي حال، في نهاية المطاف هكذا قرار ليس بيدها كلياً، بل يتعلق بلحظة توازن سياسي تفرض تنفيذ قانون إدارة الأسواق المالية الذي أقر قبل ثلاث سنوات. هذه اللحظة منتظرة منذ زمن بعيد، وتحديداً بعدما صمت المدفع بداية تسعينيات القرن الماضي.

إنتفاضة تطوير!

خلال الأعوام الخمسة الماضية، شهدت البلاد حالة انتفاض لتطوير السوق، بل بالأحرى لإحيائها. انتفاضة يقودها حاكم مصرف لبنان،
تنفي البنوك اللبنانية أن تكون قد ناصرت تياراً ضدّ تطوير بورصة بيروت وترى أنّ تطوير عمل السوق يُخفف عنها أعباء تمويل الاقتصاد
رياض سلامة. تطوّر هذا الحراك من الضغط لإقرار قانون السوق المالية – الذي يحكم معايير تبدأ بأصول الطرح الأولي وصولاً الى معدلات الخصم ودقائق تداول السندات – ووصل أخيراً إلى الجزم بأنّه لا مجال لإحياء السوق من دون خصخصتها.
"خصخصة بورصة بيروت ستكون مبادرة في إطار تحفيز القطاع الخاص لتحويل الشركات الخاصة إلى شركات عامّة لكي يتمكن الجمهور من تملك حصص فيها"، قال رياض سلامة بداية الصيف الماضي. "وتساهم – هذه الخصخصة – أيضاً في تسنيد القروض الشخصية (أي تحويلها إلى سندات والمتاجرة بها) تحت إشراف السلطات المالية، وذلك لتجنب أي تداعيات سلبية".
الدعوة إلى الخصخصة ليست جديدة نوعياً. غير أنّ الانطلاق في السوق عبر تحويل القروض إلى أدوات مالية يبعث الرعشة المالية؛ هذا السلوك هو ما أدى إلى تراكم عوامل الضعف الهيكيلي التي ولدت الأزمة المالية العالمية عام 2007 (هل تذكرون سندات الرهن العقاري الأميركية!)
قد تكون الخصخصة هي المخرج الملائم، لا أحد يعلم. وفي جميع الأحوال لا توجد فروقات شاسعة بين العام والخاص في البلاد كون إدارة هذه الجمهورية عبارة عن قرارات هجينة تختلط فيها المعايير الطائفية، المناطقية وبطبيعة الحال الاقتصادية.

نظام جديد

ولكن بالركون إلى المعطيات الموجودة، لا بدّ من فعل شيء لضخ الحياة في هذه السوق. هنا يُمكن القول إنّ الحراك مستمر. في ربيع 2014، وقعت إدارة البورصة اتفاقاً مع شركة Euronext – التابعة كلياً لمجموعة البورصات العالمية Intercontinental Exchange Group – بهدف "اعتماد نظام تطبيقي جديد يُشكّل أرضية مؤهلة للنمو في الأسهم المطروحة والبدء بتداول فئات جديدة من الأصول (الاوراق المالية) في السوق اللبنانية". وقد شكّلت هذه الخطوة تمهيداً لتصريحات الحاكم، بأن الوقت حان لبدء التداول بما هو غير مألوف لبنانياً، أو بالأحرى غير مألوف لنظام الإدارة المالية "المحافظ".

ثاني أقدم سوق

الحديث عن تأخر بورصة بيروت عن ركب التطور المالي كان يُعدّ ضرباً من الهرطقة قبل ثلاثة عقود. فهي ثاني أقدم سوق في المنطقة، تأسست في بداية عشرينيات القرن الماضي بناء على مرسوم من المفوض الفرنسي. بعد انطلاقتها طُرحت أسهم للتداول فيها وفي بورصة باريس في الوقت نفسه.
شهدت أيامها الجميلة خلال العقدين الذهبيين، الخمسينات والستينات، أي سنوات ازدهار الاقتصاد اللبناني وتوسع آفاقه السياحية والمالية. لم تدم النعمة المالية إذ سرعان ما اندلعت شرارة الحرب؛ استمر التداول في البورصة رغم كلّ شيء حتّى عام 1983 حين توقف نهائياً، ولم يُستأنف سوى في 1996 (راجع الكادر المرفق).
غير أنّ استئناف التداول لم يؤدّ إلى ازدهاره. حالياً يبلغ عدد الشركات التي تُتداول أسهمها في السوق اللبنانية عشرة فقط. الاثنين الماضي بلغ حجم التداول 21935 سهماً، بقيمة إجمالية تبلغ 264 الف دولار، وبرسلمة بالكاد تتخطّى 11.2 مليار دولار.

مقارنات

وفي مقارنة بسيطة مع بعض بلدان المحيط يتضح مستوى ضعف حركة السوق اللبنانية. في الأردن، البلد المشرقي الذي تُعد المقارنة بينه وبين لبنان منطقية، تفوق رسملة السوق 25 مليار دولار، فيما يفوق عدد الاسهم المتداولة 6.6 ملايين سهم.
أما لدى المقارنة مع سوق أكبر، السوق المالية السعودية، تتسع الفروقات. في المملكة، يُسجّل مؤشرا تداول المتاجرة بقرابة 232 مليون سهم يومياً، بقيمة تبلغ 2.1 مليار دولار.
قد يكون من الظلم مقارنة البورصة اللبنانية مع سوق أكبر اقتصاد في العالم العربي، أو مع أي اقتصاد آخر في المنطقة نظراً لتخلف المؤسسات اللبنانية وإطارها المالي. ولكن في الوقت نفسه، فإنّ بقاءها في وضعيتها الحالية هو ظلم أكبر لبلد كان من الممكن أن يكون سهمه من بين الأعلى في العالم.




تسع شركات... وكرزة

بعد توقف دام 13 عاماً، عاد النبض إلى مؤشر بورصة بيروت عام 1996. غير أنها كانت، ولا تزال، عودة خجولة. صحيح أن بروتوكولات كثيرة وأنظمة متطورة تبنّتها هيئة إدارة السوق لترشيق التداول وحركة الاسهم، غير أنّها لم تؤدّ إلى أي قفزة نوعية في أداء البورصة عموماً. ولعلّ التطوّر الأهم الذي يخصّ دينامية هذه السوق كان إقرار البرلمان اللبناني القانون الجديد للأسواق المالية أدى إلى إنشاء هيئة السوق ووظيفتها الرقابة على السوق وخلق الإطار الملائم لتطويرها. ويفترض هذا القانون أيضاً إنشاء المحكمة المالية التي من شانها الحسم في النزاعات المالية، كما يضع تصوراً عاماً لخصخصة إدارة البورصة بهدف تحسين أدائها. حالياً هناك عشر شركات فقط لديها أسهم واوراق مالية متداولة في السوق اللبنانية، 60% منها مصارف إضافة إلى شركتي الإسمنت الكبريين في البلد وشركة تجارة السيارات، "رسامني يونس"، وطبعاً الكرزة على حلوى النظام اللبنانية، "سوليدير".