منذ سنوات قليلة، شنّت منظّمات لبنانية، من بينها حركات يسارية، حملة إعلامية تحذّر من الحشيش ومخاطر انتشاره بين الشباب. النية خلف الحملة كانت نبيلة، غير أنها عانت من مشكلتين؛ تتعلّق الأولى بالادّعاءات الطبية التي رافقتها، المشابهة للدعاية التي انتشرت في أميركا الأربعينيات للتخويف من الماريجوانا، من نوع انها ستصيبك بالجنون وتجعلك تقفز من النوافذ، وتسبب الانحراف والجريمة. أمّا المشكلة الكبرى، فكانت في العقلية المركزية ـ البيروتية التي جعلت حركات يسارية، تدّعي الالتصاق بهموم الشعب والمهمّشين، تعمل على مكافحة الحشيشة وتجريمها بدلاً من المطالبة بتشريعها ورفع المنع عن زراعتها.
الموضوع ليس تفصيلاً، فلا شيء يظهر تجاهل – بل احتقار – الناشط المديني لمصائر مئات الآلاف من الفلاحين في بلده، كأن يدعم سياسات وقوانين أفقرت أرجاء واسعة من الريف اللبناني، إمّا لأنه يركّز على مواضيع «أهمّ» (كرفض التمديد و»الثورة على النظام الطائفي»)، أو بسبب مفهوم برجوازي محافظ عن الاخلاق والسويّة، لا ضير من اعتماده والدفاع عنه، ولكن ليس حين يكون الأمر على حساب أضعف فئات الشعب وأكثرها حرماناً.
إلى اليوم، لا توجد دراسات وافية عن التذرّي الاجتماعي والاقتصادي الذي ضرب قرى البقاع والهرمل إثر منع زراعة الحشيشة في التسعينيات، مثلما لا توجد دراسات عن الازدهار الذي أصاب المنطقة، والتنمية المحلية التي نتجت منه، حين كانت باقي أرجاء البلد – للمفارقة – تمرّ في أسوأ مراحل الحرب الأهلية، فتركت الدولة المزارعين في حالهم.

من تاريخ القنّب

في كتابه عن تاريخ القنّب، يقول مارتن بوث (نشر ايضاً كتاباً معروفاً عن الأفيون) أن نبتة الحشيشة هي من أقدم الزراعات التي انتشرت في المجتمعات الإنسانية، بل إن إحدى الفصائل الثلاث الكبرى اليوم للقنّب، «كانابيس ساتيفا»، يعني اسمها باللاتينية «القنّب المزروع»، لأنها وصلت إلينا بنسختها المهجّنة؛ بمعنى أن الانسان القديم قد حرثها وهجّنها لآلاف السنين حتى ضاعت البذرة الأصلية، «البريّة»، ووصلنا الصنف المؤصّل زراعياً.
شاعت زراعة القنّب في القدم لا لمفعوله المخدّر فحسب، والاركيولوجيا تظهر أنّ استهلاك القنب كان يدخل ايضاً في الطقوس الدينية، بل لأن النبتة تملك أهمية اقتصادية، فهي أحد مصادر صناعة القماش والكتان والحبال والزيوت. وهناك نظرية مؤامرة شائعة بين مؤيدي الحشيشة في الولايات المتحدة، تدعي بأن منع زراعة القنب في اميركا ارتبط بنفوذ مصالح الأخشاب، التي أرادت إقصاء القنب كمادة أولية منافسة في صنع الورق.
نجد في التاريخ العربي والاسلامي أيضاً اشارات كثيرة الى الحشيش والقنّب، تظهر شيوعه واستعماله الترويحي في بلادنا عبر الحقبات؛ من كتابات مؤرّخ كالجبرتي (يروي لقاءه بخطيب مسجد في القاهرة تذرّع بأنّه «كان محششاً» لتفسير عدم تركيزه خلال الخطبة) إلى فتاوى ابن تيمية، ناقش «شيخ الاسلام» مادّة الحشيش وانتهى الى تحريمها في أغلب الاستعمالات، ويبدو من تعليله الفقهي أن الناس في عصره كانوا يستهلكون الحشيش إمّا عبر إذابته في الشاي، أو بأكله مباشرة، أو بطبخه في الطعام (اذ لم تكن اميركا قد اكتشفت بعد، ولمّا يصل التبغ الى العالم القديم). غير أن النقاش المطوّل الذي أفرده ابن تيمية في شرح الموضوع، وتفصيله لعلل التحريم، يظهران أن المسألة لم تكن محسومة أو واضحة بالنسبة الى الفقهاء في أيامه.

لبنان والميزة التفاضلية

حتى نفهم سرّ العلاقة المميزة بين لبنان والحشيش، والميزة التفاضلية التي يتمتّع بها سهل البقاع ومرتفعاته في هذا الإطار، يجدر بنا أن نعود الى بعض أساسيات هذه الزراعة. بحسب مارتن بوث، فإنّ «نوعية» الحشيش؛ أي،
يصعب أن تكون البطاطا أو القمح سلعة لبنان التنافسية لإنماء الريف


تشرّع الولايات الأميركية الواحدة تلو الأخرى استعمال الحشيشة

بمعنى آخر، تركيز المادة الفاعلة الأساسية – الـ«تيتراهايدروكانابينول» - في إناث النبتة، ترتبط طردياً بعاملين اثنين: الارتفاع والشمس. القنّب يحتاج الى كميات كبيرة من الأشعة الشمسية خلال فترة نضجه حتى تكبر النبتة بشكلٍ سريع، كما أنّ نموّ أجزائها التناسلية، التي تحوي المادة الفاعلة، يحتاج الى الأشعة ما فوق البنفسجية، التي يزداد تركيزها في الشمس كلما زاد الارتفاع.
بمعنى آخر، فإن القنّب عالي الجودة يحتاج الى أماكن جبلية شاهقة، ولكنها، في الوقت نفسه، حارّة ومعرّضة لشمس حارقة خلال الصيف، وهو ما يندر في العالم. لهذا السبب، تشتهر بزراعة الحشيش مناطق معيّنة تتوافر فيها صفات الارتفاع والشمس معاً، كجبال الريف في المغرب، وهضاب افغانستان ... والبقاع اللبناني.
هذه «هبة جغرافية» لا يمكن استنساخها أو شراؤها بالمال، بل هي تقتصر على أقاليم قليلة، محدودة، في العالم (يقول بوث إن أفضل أنواع الحشيش وأغلاه ثمناً يُزرع في الهند، على سفوح الهيملايا وعلى ارتفاعات تفوق الثلاثة آلاف متر، وهو لندرته يحفظ في أكياس جلدية خاصة). وهذه الصفات هي التي جعلت البقاع اللبناني والهرمل مرتعاً لزراعة القنّب منذ القدم.
ما أعطى بلدة اليمونة الساحرة، التي تتوسّط سهلاً داخلياً صغيراً في مرتفعات السلسلة الغربية، سمعةً «تسويقية» في إنتاج الحشيش ليس تربتها المختلفة، ولا لأن آل شريف يملكون لمسة سحرية، بل مردّه، ببساطة، إلى أنّها مرتفعة في الجرد، وتحوي أيضاً مصادر مائية وفيرة، ما يسمح بزراعة القنّب في ظروف مثالية. ولو أن أراضي مرتفعات الهرمل – البعلية اليوم - تمدها مشاريع ريّ، كما كان يفترض أن تكون الحال منذ عقود، لكانت كلّها «يمّونة».

ذهب لبنان

تمّ في الغرب، خلال العقدين الماضيين، تهجين أصنافٍ جديدة من الماريجوانا، وطوّرت تقنيات الزرع في أماكن مقفلة وضمن ظروف التحكم بالإضاءة والحرارة، لانتاج محاصيل يفوق تركيز المادة الفاعلة فيها أيّ منتج يمكن أن يزرع في الطبيعة والهواء الطلق. غير أن هذا النمط من الزراعة (الذي يزوّد سوق الماريجوانا الطبية والتجارية في الغرب) يعتمد على استهلاك كميات ضخمة من الطاقة لكلّ نبتة على حدة، ويبقى قليل التنافسية – بالمعنى التجاري – أمام أراضٍ جعلتها الطبيعة مثاليةٍ لزراعة القنّب، وتوارثها المزارعون منذ القدم، وتمكن زراعة ملايين الأمتار فيها بكلفة قليلة، وبالاعتماد حصراً على سخاء الشمس والسماء.
من هنا، نفهم أيّ زراعةٍ هي – بالاختيار الطبيعي - مثاليّة لمناطق لبنان الهامشية، وأيها يملك ميزات تفاضلية حقيقية على المستوى العالمي. ونظرة سريعة الى كلفة اليد العاملة في لبنان وسعر الأرض وسياسات الدولة، تُفهم المراقب أن سلعة لبنان التنافسية - والتي ستُخرج الريف من الفقر وتخلق تنمية في الأطراف – من الصعب أن تكون البطاطا أو القمح. اضافة إلى ذلك، فإن من ميزات الملكية الزراعية في شرق لبنان انّها صغيرة نسبياً ومجزّأة، وأكثر الفلاحين يملكون أراضيهم، ما يمنع ظهور كارتيلات إقطاعية وشبه إقطاعية (كما في افغانستان وجنوب اميركا)، أو شركات زراعية ضخمة، تستغل الفلاحين كيدٍ عاملة وتحتكر الأرباح للمالكين الكبار، بل إن قسماً مهماً من عائدات زراعة «الممنوعات» في البقاع كان يرجع، تقليدياً، لصالح المزارع.
هذا السؤال يستحقّ أن يُطرح فيما الدولة التي ضغطت على لبنان وأجبرته على منع زراعة القنّب، أي الولايات المتحدة، تشرّع ولاياتها الواحدة تلو الأخرى الاستعمال الحرّ للحشيشة، فلم يعد لحكومات الغرب حجة أخلاقية أو قانونية في فرض سياسات كهذه على بلدنا: النّزعة العامة في الغرب تنحو إلى تشريع مشتقات القنّب، أوعدم تجريمها وملاحقتها؛ ولكنه يريد من لبنان أن يعتقل مزارعيه الساعين إلى تفادي الجوع والهجرة.

حرب على الفقراء

من الأسباب التي حفّزت موجة تشريع القنّب في الغرب، حتى للاستعمال الترفيهي، هو غياب حجّة صحيّة مقنعة، بمعنى «السلامة العامة»، تبرّر منع الحشيشة والسماح بـ«مخدرات» أخرى تباع من غير وازع، كالكحول والتبغ، كلّها تفوق الحشيشة خطراً وأذى من كلّ الزوايا. كما كتب أسعد أبو خليل مرّة، لو أن الويسكي كانت تنتجه دول الجنوب، فيما الحشيش يحتكره الغرب، لكان الخمر ممنوعاً ومرذولاً في لبنان فيما إعلانات شركات الحشيش تملأ الطرقات.
العلم صار واضحاً من هذه الناحية. التجارب الجدية المبرهنة أظهرت أعراضاً جانبية لاستهلاك القنّب، وهو قد يكون خطيراً لمن يعاني مشاكل عصبية معينة. ومن الممكن للاستهلاك الكثيف أن يسبب حالة إدمان واعتماد في واحدة من كل عشر حالات. ولكنّها محاذير تبقى هينة أمام أضرار الكحول والتبغ، أو حتى التوتّر. والتبغ وإحراقه، بالمعنى الصحي، قد يكونا أخطر ما في «سيجارة الحشيش» - استشرت خلال كتابة هذا المقال أستاذاً وباحثاً من أصل لبناني في كلية هارفرد الطبية، زوّدني مشكوراً ببعض الدراسات والخلاصات العلمية، وأبدى معارضته لتجريم زراعة القنّب، مضيفاً أنّ ميزاته في الاستعمال الطبّي «حقيقية جداً»، وأن الأذى الاكبر هو ذاك الذي ينتج من الحرب على زراعته، كما أثبتت التجربة الأميركية، إذ أنها تطاول أساساً - في لبنان كما في اميركا - الطبقات الفقيرة والتي لا تملك صوتاً في المجتمع.
هذه من القضايا التي لن تجد حماسة لدى منظمات المجتمع المدني، ولن تستدر تمويل الحكومات والمؤسسات الأوروبية، غير أنّها – على عكس الكثير من الحملات التي تختلقها المنظمات دورياً بغية تبرير وجودها – مسألة قابلة للتحقيق، ويمكن أن تغيّر، فعلاً وبالمعنى المباشر، حياة الكثير من الناس. بالإمكان تخيّل مستقبل مختلف لمناطق واسعة في لبنان هي اليوم هامشية محرومة، يقدر المزارع فيه على العيش بكرامة ورفاه في منبته، وتصير للأرض والإنتاج قيمة، بل وقد ينزح أبناء السواحل إلى الداخل، هذه المرة، بحثاً عن العمل والفرص.