تكاد تحس بالأسى والتعاطف حيال واشنطن وأهل قرارها هذه الأيام. إحساس لم يكن ينقصه غير أخبار «الربيع الأميركي» المندلع في فيرغسون، ليصير على حافة أللهم لا شماتة! المشهد برمّته كأنك في دولة عالمثالثية: تظاهرات عنفية على خلفية تفسّخ النسيج الاجتماعي. وزير دفاع يستقيل، لأسباب مختلفة طبعاً، لكنه يكمل المشهد – المفارقة. رئيس بلا أكثرية حاكمة، ومن أقلية محكومة عرقياً، يحاول تهدئة «شارعه». وكلام يكاد يذكّرك من بعيد بخطاب: «لقد سمعتكم ... وصلتني الرسالة!».
وسط هذه المحاكاة «الربيعية»، يتمسك أهل واشنطن بخطاب دفاعي، تبريري: من قال لكم إننا لا نملك استراتيجية واضحة في منطقتكم؟! منذ تسلم إدارتنا ونحن ننتهج خطاً واضحاً. عاموده الفقري أننا قررنا الانسحاب من النزاعات العسكرية التي تورّطنا فيها في العقدين الماضيين. الانسحاب من العراق ومن أفغانستان. مع السعي إلى عدم ترك هذين الموقعين في حالة من الفوضى. لا بل محاولة تأكيد إيجابية الدور الأميركي في كل منهما. في المقابل، وتحصيناً لخيار الخروج وتدعيماً لسياسة تقدّم المنطقة واستقرارها، كان لا بد من معالجة الملفّين الأكثر تأزّماً وتأزيماً للعلاقات بين أطرافها: أولاً الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، وثانياً الملف النووي الإيراني. وهو ما بذلت إدارتنا ولا تزال جهداً استثنائياً لمحاولة إنجاز خروق فعلية لحلهما. مع مفارقة أننا تمكنا على ما يبدو من التقدم مع الخصم الإيراني، أكثر مما أنجزنا مع الحليف الاسرائيلي... في كل حال، تصوّرنا العام، أننا إذا تمكنّا من معالجة هذين الملفين، وخرجنا من بغداد وكابول آمنين وهما عاصمتان ودولتان آمنتان، نكون قد حققنا الكثير من استراتيجيا السلام الممكن واستقرار الحد الأدنى لمنطقتكم! مع الاعتراف بأنه لا يمكن تحقيق أكثر من ذلك في منطقتكم.
لا يحكي أهل واشنطن أكثر. والأهم أنهم يغضّون الطرف والنظر عن أبرز ظاهرة فيه: هل من علاقة ما بين الملفّين اللذين يسعيان إلى حلحلتهما؟ هل من علاقة صلة أو تماثل أو تفاعل أو سببية حتى، بين نووي إيران المحكي عنه، ونووي اسرائيل المسكوت عنه؟
كل مأساة واشنطن وأهلها في الشرق الأوسط، يبدو أنها تكمن ههنا. حتى أن كل إرهابات المنطقة، وكل عنفها، وكل دمائها وآلامها وحروبها، تجد جذورها في هذه الثنائية. وتحديداً في العجز الأميركي على خط هذه الثنائية. في التناقض الأميركي مع الذات، وفي الوقوع الأميركي في كارثة سياسة المكيالين والوزنين والطقسين والسقف والواحد. في اسرائيل، ثمة قضية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. عنوانها سرقة وطن من شعبه. قضية خلفت معاناة وظلماً وقهراً وسلوكيات غرائزية بقائية مفهومة. هنا، وقفت واشنطن عاجزة. وفي أحيان كثيرة متورطة، متواطئة، شريكة، مسؤولة، مذنبة مرتكبة ... ولا من يسأل في واشنطن أو يسألها. لماذا كل هذا الجرم الأميركي؟ بكل بساطة لأن هناك اسرائيل، لا في بعد أخلاقي مزعوم أو تاريخي مزوَّر أو ديني محوَّر، أو حتى سياسي مصالحي جيوسياسي أو استراتيجي. بل لمجرد أن هناك لوبياً صهيونياً اميركياً يدفع بضعة آلاف من الدولارات إلى كل مرشح كونغرسي عند كل استحقاق اقتراعي. هو هذا أساس العلة. كل ما فوقه تبريرات وتنظيرات. من الصهيو – مسيحية إلى «الالتزام الأدبي» بأمن اسرائيل إلى زمن القطبين ونظرية حاملة الطائرات على يابسة تل أبيب ... كلها تسويغات. كلها منبثقة من حفنة من الدولارات في حفلة مرشح مغمور في أدغال آخر ولاية نائية عن واشنطن. حفنة دولارات، جعلت تدريجياً أكبر دولة في العالم، عاجزة في الشرق الأوسط.
في المقابل، وفي شكل متزامن، وفيما كانت واشنطن تسقط يومياً ضحية سياستها الاسرائيلية، كانت هي نفسها تشحذ سكين نحرها في مكان آخر قريب. هناك في الحجاز، كان ثمة نظام «داعشي» يقوم منذ 80 عاماً. نظام مطابق بالكامل لنظام «داعش». في كل تفصيل وحاشية وتنظيم وتأسيس. لا لزوم للتأريخ هنا ولا للبحث في المدوّنات. يكفيك عنوان إحدى صحفه قبل أسابيع: «سجناء يؤدون الحج قبل قطع رقابهم في ساحات القصاص»! هي «داعش» إذاً منذ 80 عاماً وحتى اليوم. لكنها «داعش» محمية أميركياً، لا بل محمية أميركية. بشكل مناقض لكل مبادئ ويلسون ولكل شعارات واشنطن المعلنة. لماذا؟ لا من أجل مواجهة موسكو ولا من أجل تركيع أوروبا ولا بغية محاصرة بيجينغ. كل هذا لاحق. اساس العلاقة بين واشنطن والرياض، مصلحة ذلك المجمّع الصناعي العسكري الذي يحكم الأولى، ويستخدم الثانية. قصة دولارات هنا أيضاً. مع فارق أن دولارات الصهيونية خلفت دماً فلسطينياً. بينما دولارات الوهابية وصلت إلى رقاب الأميركيين. هكذا، تكامل انتحار واشنطن. ظل الأميركيون على مدى أكثر من نصف قرن، يولّدون القهر من سياستهم الاسرائيلية، وظلوا يهيّئون لتحول القهر نفسه من صيغته الوطنية المقاومة، إلى صيغته الداعشية الإرهابية، بسياستهم الحجازية. حتى انفجر المحوران، فانفجرت المنطقة...
في هذا الوقت بالذات، تحاول واشنطن معالجة القهر الفلسطيني، من دون إشارة إلى النووي الصهيوني العاجزة عن كلمة حياله. وتحاول معالجة النووي الإيراني، لتضمن استقرار نظام الحجاز واهتراء الحجاز. والسياستان، هدفهما حفنتان من دولارات لا غير.
مسكينة واشنطن. مساكين أهلها. كيف أنهم لم يتظاهروا من قبل للمطالبة بربيعهم، وربيعنا!