(«الشجاعة الوحيدة التي تستحق الممارسة هي مجابهة الموت بالعضل، بالفعل العنيف، حيث تكون في الموت نفسه غلبة على الموت. موت الفدائي مثلاً، أما أنتم، فاسمحوا لي أن أقول لكم: إنكم جميعًا جبناء». جبرا إبراهيم جبرا)
عندما ينهزم جيش وينسحب، يترك وراءه مجموعات تقاتل العدو كي لا يستطيع الهجوم على الجيش المهزوم. هذه المجموعات تُسمى جيوب المقاومة، وهي التي تحمي الجيش المنسحب من أن يُجهز عليه العدو حتى لا يفنى، ولكي يتمكن من إعادة بناء نفسه والهجوم مجدداً. هذا ما يخبرنا به تكتيك تراث حرب الغوار (جيفارا) واستراتيجيو الجيوش، وقلما قيل فيه ما يكفي على أهميته، وهو تطوع المقاتلين الغواريين ذوي الشحنة الثورية العالية والمتدفقة للقتال، ليشكلوا جيوب مقاومة تعيق لحاق العدو بالجيش المتعب أو المهزوم.

وهذه الجيوب تتوفر دائماً، ويفرزها جسد المجتمع بشكل طبيعي عبر تراث المقاومة الطويل، وفلسطين مثال ناصع على هذا. هؤلاء الشهداء المقاومون في الانتفاضات الفردية التي ظهرت أخيراً هم جيوب المقاومة الذين يصنعون مفاتيح اللحظة لبوابات التاريخ، ولتعود الحياة في الجسد الفلسطيني، حتى لا يدخل حالة الموت السريري.
أبدأ بالقول إن قوة ومخزون المقاومة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني لا تفنى ولا تنضب، بل تتحول من شكل إلى آخر، ودوماً يأتي الوقت لتتفجر وتتجدد وتستعيد دورها، بغض النظر عن شكل الانفجار، سواء اتخذ شكل الكفاح المسلح في الستينيات والسبعينيات، أو الانتفاضة الجماهيرية في الثمانينيات، أو العمليات الاستشهادية في الانتفاضة الثانية، أو تجربة المقاومة في غزة في ثلاث حروب متواصلة، أو ثورة الأسرى والإضراب عن الطعام، وصولاً إلى المبادرات الفردية الفدائية التي نفذها أفراد على شكل عمليات دهس وطعن في انتفاضة القدس الأخيرة، التي تعتبر شكلاً نضاليّاً جريئاً، فيه تحدٍّ صارخ ليس فقط للاحتلال الصهيوني (نقيضنا الوجودي)، ولكن هي أساساً ومبدئيّاً تحدٍّ لنهج أوسلو وتمرد شعبي في مواجهة الهزيمة والتسوية وعنف السلطة وتنسيقها اﻷمني مع الاحتلال.
في وضع الجزْر الثوري الذي تعيشه القضية الفلسطينية حاليّاً، لا توجد حالة نهوض جمعي وتنظيم جماعي، كجمالية حالة الانتفاضة الأولى مثلاً، فبعد أن قضت أوسلو على نضال الجماهير، واحتوت النخب القيادية الحزبية، وشرذمت المنظمات السياسية والبنى النقابية والحركات الطلابية والعمالية، كان من الطبيعي أن يفرز المجتمع من مخزون المقاومة الكامن. لذا برزت حالات فردية من النضال، بما هو حي على شكل دفاع ذاتي طبيعي، ولكن هؤلاء المقاومون ليسوا أفراداً مطلقاً، بل هم حالة ما بين الفردي والجماعي، ما زالت لها ارتباطات بالمنظمات والأحزاب التي لم تمت وتندثر تماماً. ومن ليس من هؤلاء ضمن خلية منظمة، فهو متأثر بسياق وثقافة المقاومة الجمعية الفلسطينية على مدار عقود، حتى ولو كان هذا التأثير في اللاوعي.
حتى لو كانت العمليات فردية فالمهم أن نؤسس عليها وطنيّاً ونجعلها تراكمية


تعتبر هذه الحالات جيوب المقاومة التي تبقي الصراع حيّاً والمواجهة مشتعلة، فهم يسببون قلقاً وإرباكاً عالياً للمحتل الذي ينتابه هاجس أن كل مواطن قد يكون مشروع قنبلة أو سكين أو سيارة تصدمه... إلخ. قد لا تكون استراتيجية ناجعة بمفردها، ولكنها ومضات الضوء التي تنير العتمة، كحالات من الوعي الرافض والثائر والمتمرد لعنف الاستعمار الذي يخلق نقيضه بالنهاية. هذه الحالات هي التي تنير الطريق كي تلحق الجماهير، وهي مقدمات موضوعية وضرورية تدعو لتقوية مفهوم ودور التنظيم والمزيد من التنظيم للعودة إلى حالة النهوض الجماعي مجدداً. وهذا النهوض يتطلب من جميع الفصائل أن تعيد تأهيل نفسها كمقاومة، بالرغم من كل ما يعترضها من عقبات.
دار أخيراً جدال واسع في الأوساط الفلسطينية بين مؤيد ومعارض لهذه الانتفاضات، وكما وصفت الصواريخ بالعبثية أثناء حرب غزة الأخيرة، ينتقد البعض «التغني» بعمليات الدهس والطعن، لأنها عمليات فردية لا تمثل استراتيجية مقاومة فاعلة ومناسبة، وما هي سوى دليل عجز المقاومة واستهلاك الفصائل لدورها... إلخ. هؤلاء محترفو نقد كل مقاومة، يغطون هدفهم المحبط بالقول: مع التقدير لروح الحرية والكرامة عند الشهداء إبراهيم العكاري ومعتز حجازي! هل صواريخ غزة كانت عمليات فردية؟ أليست فعل منظمات؟! إذا كانوا ضد مبدأ الكفاح المسلح من أساسه، فكيف يكونون مع المقاومة؟ هؤلاء داخليّاً وفي جوهرهم كارهون للمقاومة، ورافضون لفكرة التنظيم، ولا يعملون شيئاً سوى انتقاد التنظيمات بطريقة عدمية، فهم ضد التنظيم من أساسه. وما يمكن قوله لهؤلاء بعد أن بثّ الشهداء روح الحياة والمقاومة: يكفيكم زرع اليأس في نفوسنا. هذه العمليات هي التي تنقذنا من حالة التشاؤم وما حل بالقضية، لأنها دليل على إبقاء شحنة وشعلة المواجهة في حالة الصراع بدلاً من الإحباط الذي تتغنون به بموت التنظيمات. تدفق دماء الشهداء في العمليات الفردية دلالة على أن الفلسطينيين ماضون في المقاومة التي تحرضون ضدها، وتخافون منها وتخشونها لدواعٍ أنتم تعرفونها تماماً، وهي مع غير شعبنا وقضيتنا.
علينا نقد التنظيمات، ولكن الحديث العدمي عن استهلاك وتفكك التنظيمات إشكالي وخطير. علينا الانتباه إلى أن هذه «العمليات الفردية» هي حالة بين الفردي والجماعي. وهؤلاء المقاومون الأفراد ليسوا أفراداً مطلقاً بل لهم ارتباطات بالمنظمات والأحزاب. الشهيد معتز وشحة مثلاً ينتمي إلى الجبهة الشعبية، والشهيد معتز حجازي من حركة الجهاد الإسلامي، ومنفذا عملية القدس الأخيرة الشهيدان غسان وعدي أبو جمل هما من الجبهة الشعبية. وهذا بخلاف ما رددته بعض الفضائيات بأن الشهيدين ليسا عضوين مباشرين في الشعبية، وإنما أحد أقاربهما هو عضو في هذه المنظمة. غريب هذا الإصرار على رفض الخلفية التنظيمية.
صحيح أن هذه الحالات فردية ولا تعني أن الجميع يقاوم، وحتى المقاومة الحزبية لا تعني أن الجميع هكذا. ومن هنا، فالفكرة الأساسية أن المبدأ هو المقاومة. لذا، على كل منا أن يقوم بدوره حتى لو كان بشكل فردي، حينها فقط نؤسس لما هو أبعد من دورنا وطاقتنا الفردية. ومن غير الحكمة أن نجرد مقاومة الانتفاضات العفوية من نضاليتها، بدلاً من تحويل الحالة إلى ثقافة مقاومة والبناء عليها والاستثمار فيها لتصبح حالة نضالية تراكمية جمعية، وحتى لو كانت العمليات فردية، فالمهم أن نؤسس عليها وطنيّاً ونجعلها تراكمية ثورية وطنية. ورغم أهمية التنظيم والوعي الإيديولوجي، إلا أن هذه الحالات هي تعبير عن العنف الثوري الفردي بوعي طبيعي وعفوي ومتمرد ورافض كنتيجة حتمية لقهر الاحتلال والسلطة معاً. وإن لو لم يكن هناك وعي منظم، فقد يأتي التنظيم في وقت لاحق للانفجار العفوي، وليس بالضرورة قبله، بمعنى أن هذه الحالات ستقود حتماً إلى الجمع الثوري لو بنينا عليها بطريقة صحيحة ووظفناها كمقاومة. هي بطولات فردية يمكن أن نضيفها إلى حالات الإضراب عن الطعام في السجون، والعمليات التفجيرية، والاشتباك المسلح برصاصة تقنص كبار ضباط جيش العدو... إلخ. وحتى لو أضعفت البنية التنظيمية، فقد حلت العمليات الفردية الفدائية كوسيلة مقاومة لا تقل أهمية في أهدافها عن العمليات التي كانت تشتغل عليها الأحزاب والفصائل. وقد يكون هذا العمل الفردي بعفويته أخطر على المحتل من الناحية الأمنية، فمن الصعب معرفة من هم الأفراد لإحباط مخططاتهم إلا وقت حدوثها. لذا، فإن ميزة هذه العمليات تكمن في عنصر المباغتة والإرباك وصعوبة السيطرة لمنع وقوعها. كما أنها تبث الرعب في أمن المحتل الصهيوني وتجعله يخاف من عواقب قمعه وعنفه تجاه الفلسطينيين.
إن السياق الحالي، فلسطينيّاً وعربيّاً ودوليّاً، لا يسمح بأبعد من العمليات الفردية المحدودة، سواء من حيث حدود حراك الشارع أو تراجع العمل التنظيمي أو القيود والمحاذير الأمنية. والواقع يفرض تحديات ويعرض لنا هذا الحراك من ومضات المقاومة، وعلينا التقاطها. إن دور الحركة السياسية أن تلتقط حدث هذه الانتفاضات العفوية لتعزيز المزيد من التنظيم. في النهاية، فإن المسألة تبادلية بين تحرك الشحنة الفردية لهؤلاء المقاومين، وبين الدور الجماعي السياسي للتنظيمات وللمجتمع بشكل عام. أما الانتقاد المطلق للواقع الفلسطيني والقوي ووعي الشهداء الأفراد، فقد يؤدي إلى القضاء على أي شحنة داخلية حتى لمقاومة فردية.
كان من المؤسف أن تقوم السلطة الفلسطينية، في إطار نهج التسوية والتفريط المتبع، بإدانة عميلة القدس التي نفذها الشهيدان البطلان غسان وعدي أبو جمل، وأسفرت عن مقتل خمسة مستوطنين. لقد كان استنكار هذا الفعل المقاوم البطل بدعاوى إنسانية تنتقد قتل المستوطنين وهم يصلون. هذه الأبواق التي تنادي بالخطاب الإنسانوي البائس الذي يساوي بين الضحية والجلاد، والتي طالما قامت بشيطنة كل فعل مقاوم من منطلقات إنسانية ينطبق عليها ما يسمى بـ His Master›s Voice أي صوت سيده. كما قام الاستعمار بشرعنة مجازره باسم الإنسانية، يقوم عبيده بنفس الدور. لذا، هي إنسانية العبيد. وكل من لا يؤمن بالكفاح ومقاومة الاستعمار، يستحق معاملة العبيد. فأهلاً بدعاة الإنسانية الدونية! قالها مظفر النواب: «أهلاً بدعاة الموضوعية... جارتنا إسـرائيل حبيبتنا... هي صاحبة الأرض ونحن الغرباء... وتدخل إنساناً وتخرج لا شيء من الإنسانية فيك سوى الصمت».
بعبارة واحدة، الإنسانية لا تتحقق إلا بفعل المقاومة الذي نتخلص فيه من المكانة الدونية التي يضعنا بها المستعمر، وفعل هؤلاء الأبطال المقاوم هو ما يعطي المعنى لوجودنا الإنساني الصحيح. هنا، وهنا تحديداً، يفرض فرانز فانون إبداعه بأن المستعمَر المقاوم يعيد إنتاج نفسه وإنتاج عدوه بشكل مختلف نقيض حالته السابقة الدونية تماماً. بل هنا يأخذنا فانون إلى العمق النفسي الإنساني للمقاوم؛ فالعنف الثوري عند فانون هو الوسيلة الوحيدة للتحرر الإنساني ولخلق الإنسان الجديد، وإعادة بناء المجتمع للبدء بدورة حياة جديدة، وعليه، فإن عالم الاستعمار والدونية لا ينهار إلا عندما يتحرر المستعمَر من قيم المستعمِر، وحين يموت الاستعمار، يموت معه كل من المستعمِر والمستعمَر، وتبدأ دورة حياة جديدة. فتحت تضحيات هؤلاء الفدائيين الشجعان الباب أمام مرحلة جديدة في الكفاح الفلسطيني. المهم أن تتم المراكمة على هذه الانتفاضات الفردية، فإن تراكميتها ستقود إلى ثورة وليس إلى انتفاضة لو تم تحصينها وأحسن البناء عليها، والانتقال بها إلى مرحلة قادمة إلى تحت الأرض في ظل راية فلسطينية نقية.
أخيراً يمكن القول إضافة إلى هؤلاء الشهداء الابطال، إن جيوب المقاومة أيضاً هي تلك القلة القليلة التي لم تيأس، ولم تنحرف، ولم تنهزم من الداخل، وواصلت المسيرة المقاومة تحت وطأة الهزيمة، لتبقي الحالة النضالية حية، بمعزل عن أن ينتصر النضال في لحظتها أو لا، بل تعمل على تأصيل جدوى النضال المديد للأجيال القادمة. جيب المقاومة يعيق تقدم العدو، وليس شرطاً أن يهزمه، لكنه يعطي جيشه فرصة التقاط الأنفاس ليقاتل مجدداً. من يصمد ويستمر ويحافظ على الأمل في هذا الوقت المأزوم هو جيب مقاومة. يجب أن ينتصر الأمل الوطني في زمن اليأس والخيبة والخيانات المتجددة. وفي حرب الإرادات بين المستعمِر والمستعمَر، لن تنتصر سوى الروح العالية المؤمنة بالنصر كما قال حسن نصر الله: «الروح هنا هزمت الروح هناك». سيظل دعاة الهزيمة وفلسفتها لا يملكون إلا أن يدافعوا عن هزيمتهم، ودعاة الانتصار لا يملكون إلا الإيمان بحتمية الانتصار والقتال من أجله.
* كاتبة فلسطينية