دمشق | ماذا يفعل الناشر السوري هذه الأيام؟ غلاء الورق واحتكاره، وضعا دور النشر في سوريا حيال محنة إضافية. بعد إغلاق معظم المطابع أبوابها، نظراً إلى وجودها في المناطق الساخنة للحرب، هناك صعوبة التوزيع داخلياً وخارجياً، ثم امتناع أكثر من معرض للكتاب عن مشاركة دور النشر السورية، فيما أضافت معارض أخرى بنداً جديداً في استمارة المشاركة يتعلّق بالمذهب الديني الذي ينتمي إليه الناشر حتى لو كانت كتبه علمانية!
في الضفة المقابلة، أغرقت الرطوبة أحد مخازن منشورات «اتحاد الكتاب العرب»، ما أدى إلى تلف نحو 4 أطنان من الكتب. لم يأبه أحد إلى اختفاء هذه الكنوز. على العكس تماماً، وجد بعضهم في تلف هذه المطبوعات فألاً حسناً للخلاص من ركام الأفكار البائتة والمعطوبة والركيكة. في نهاية المطاف، هي ليست أكثر من إعانة مالية لأعضاء الاتحاد المزمنين. كما وقعت «الهيئة العامة السورية للكتاب» تحت وطأة قيادات طارئة، لطالما أثبتت فشلاً ذريعاً في رسم خطط استراتيجية لتسويق الكتاب، أو الانفتاح على الأطياف الجديدة في الكتابة، إلى الدرجة التي يجاهر فيها مدير التأليف في الهيئة، وهو شاعر طللي، بأنه سيرفض أي كتاب شعري ينتمي إلى قصيدة النثر (تسلم إدارة الهيئة العامة للكتاب لاحقاً)، ليزيد في الطنبور نغماً. هكذا تسلّل ديناصورات «اتحاد الكتاب العرب» إلى الهيئة العامة للكتّاب بصفة قرّاء للمخطوطات، ومستشارين ثقافيين. وإذا بمنشورات الهيئة تتحوّل إلى فرع من منشورات الاتحاد النفيسة، إذ بالكاد نجد عنواناً لافتاً، أفرزته السنوات الأخيرة .
بعد أن يُرفض مخطوطه في «اتحاد الكتاب العرب»، وفي «الهيئة العامة للكتاب»، يلجأ الشاعر الشاب إلى دور النشر الخاصة لطباعة كتابه على حسابه الشخصي، وبعد مفاوضات يتفق الطرفان على طباعة 200 نسخة، لتوفير النفقات، على أمل أخير بأن تُباع في حفل توقيع يدعو إليه أصدقاءه لتعويض خسائره المحقّقة، فيما لجأ آخرون إلى طباعة مجموعات مشتركة، أو نسخ الكترونية من أعمالهم. سيزداد عدد النسخ المطبوعة إلى 500، أو 1000، بخصوص الرواية والحقول الأخرى، وهذا العدد المهول يحتاج إلى نحو ثلاث سنوات كي ينفد، وغالباً ما تودع نصف الكمية في المخازن.
هاجرت بعض الدور إلى عواصم عربية أخرى، أو تحوّلت إلى النشر الالكتروني كـ دار قدمس»

لهذه الأسباب هاجرت بعض دور النشر إلى عواصم عربية أخرى، وأغلقت دور أخرى أبوابها، أو تحوّلت إلى النشر الالكتروني (دار قدمس)، وفقدت ثالثة أصول الكتب (البلاكات)، بعد نشوب الحرائق في مستودعاتها بسبب حدة المعارك في محيطها، أقله هذه حال «دار الحصاد» التي توقفت عن النشر تقريباً، كما يقول مديرها جامع بهلول، فيما بقيت العناوين الجديدة محتجزة، في مطبعة أخرى، من دون أن يعرف مصيرها إلى اليوم. الدولار الذي فرض نفسه على تعاملات السوق أطاح بقيمة الليرة، والحال، كيف ترفع ثمن الكلفة لقارئ محلّي بالكاد يغامر بشراء كتاب بالأسعار القديمة؟ يتساءل سامي أحمد، صاحب «دار التكوين»، لكنه في المقابل، لم يتوقف عن النشر طوال الأزمة، معتمداً على تسويق عناوينه الجديدة، في المعارض الخارجية التي لا تزال الطريق سالكة إليها بصعوبة، في تعويض خسائره، وهو ما تتبعه «دار نينوى» لصاحبها أيمن الغزالي، باعتمادها على الكتب المترجمة المطلوبة عربياً، بغياب العناوين المحليّة اللافتة، خصوصاً بعد هجرة معظم الكتّاب السوريين المرموقين إلى دور نشر عربية، مثل بيروت والقاهرة والجزائر، من دون أن ننسى توقّف معرض دمشق الدولي للكتاب طوال السنوات الأربع الفائتة، هذا المعرض الذي كان نافذة واسعة لتسويق الكتاب السوري، وإعادة الروح للقراءة الموسمية. ولكن ماذا بخصوص النشر السرّي؟ في ظل الأزمة الممتدة التي تعيشها البلاد، وأزمة صناعة الكتاب، لجأ قراصنة الكتب إلى ترويج الكتب الأكثر مبيعاً، بتزويرها محليّاً، عن طريق» الريزو»، إذ بإمكانك تصوير الكتاب، كما لو أنّه نسخة أصلية، وبيعه بثلث ثمنه الأصلي، وإذا به ينتقل من باعة الأرصفة إلى واجهات المكتبات الكبرى. هذه الظاهرة قديمة نسبياً، فهي كانت تقتصر على طباعة الكتب التراثية، والروايات الكلاسيكية العالمية التي لا تتمتع بحقوق الملكية الفكرية، ثم اقتحمت الساحة أعمال نزار قباني، واتسعت الظاهرة مع شيوع روايات أحلام مستغانمي كوصفة رومانسية لمرضى القراءة المتأخرة والمسلّية، وبصعود نجم باولو كويلو ودان براون وإيزابيل الليندي، افترش باعة الأرصفة أعمال هؤلاء، في منافسة ناجحة للمكتبات، فالقارئ لا تعنيه، في نهاية الأمر، إذا كانت النسخة التي بحوزته أصلية أم مزوّرة، طالما أن بإمكانه الحصول على نسخته بسعر شعبي. هكذا اتسعت بسطات الكتب في أرصفة العاصمة، تبعاً للعناوين الرائجة، وانضمت إلى القائمة أعمال أمين معلوف، وخالد خميسي، ومحمد الماغوط، وأليف شافاق، وحتى روايات «البوكر» العربية. لذلك لن نستغرب أن تضع مكتبة عريقة مثل» مكتبة دمشق»، كانت متخصصة بطباعة وتوزيع كتب النهضة العربية، في ستينيات القرن المنصرم، إعلاناً يتعلّق ببيع القرطاسية وتصوير الوثائق بعد تراجع بيع الكتب، ولجوء المكتبات إلى شراء الكتب من دور النشر عن طريق «الأمانة» على ألا تتجاوز ثلاث نسخ مهما كان الكتاب مهمّاً. عدا هذه المصائب المتلاحقة، هناك بند الرقابة على المخطوطات الذي تتقاسمه جهات عدة. تذهب المخطوطات الأدبية إلى لجان اتحاد الكتاب العرب، وتحوّل المخطوطات المترجمة إلى رقابة وزارة الإعلام، أما الكتب السياسية الإشكالية، فتفحصها لجنة في القيادة القطرية لحزب «البعث»، وهناك حصة لوزارة الأوقاف، في ما يتعلّق ببعض الكتب الدينية المثيرة للجدل، ولن ننسى رقابة عمّال المطابع، إذ يعترض بعضهم على وجود صورة أو لوحة، يعتبرها خليعة، أو منافية للحشمة، كما حدث لكتاب «يوميات بول غوغان في تاهيتي» الذي أصدرته «دار رفوف»، واضطر محرّر الكتاب إلى إلغاء نماذج من أعمال غوغان الخليعة. والمقصود هنا، الأعمال التي كرّسها الرسّام الفرنسي الراحل عن «نساء تاهيتي».
أن تكون ناشراً سورياً، في الظروف الراهنة، هذا يعني أنك تخوض معركة خاسرة سلفاً، لكنها «لوثة الكتب» كما يعلّق صاحب «دار كنعان» سعيد برغوثي، وهو يترقّب كل صباح، خطوات شخص ضال مثله، ينزل درج القبو المعتم، وهو يتأبط مخطوطاً غامضاً، أو يبحث عن كتابٍ مفقود. وفي أفضل الأحوال، يسدّد سلفة مؤجلة عن كتاب قيد الطبع. كأن الربيع العربي، خريف طويل للكتاب، بانشغال جمهور القراء بما تتيحه المواقع الإلكترونية من «مصادر المعرفة» الأخرى مجّاناً.