لولا الاضطرابات التي طرأت على العلاقة الروسية – الأوروبية على خلفية انضمام القرم إلى روسيا، لكان من الممكن أن نرى أنابيب الغاز الطبيعي «نورد ستريم» تمتدّ اليوم إلى المملكة المتحدّة وهولندا لتغذيتهما بالغاز الروسي، لكن هذا المشروع جُمّد، حتى الآن، وستظلّ مهمة أنبوبي «نورد ستريم» مقتصرة على تغذية أوروبا عبر ألمانيا مروراً ببحر البلطيق.
عندما بدأ التخطيط لمشروع «نورد ستريم» منذ نحو عشر سنوات - بإدارة شركة «نورد ستريم» المتمركزة في سويسرا - كانت الحيرة سيدة الموقف بين الدول الأوروبية. هي من جهة لا تريد إضاعة فرصة وجود مشروع يزوّدها بالغاز الطبيعي لآجال طويلة وبكميّة تسمح بتعزيز أمن الطاقة لديها، الأمر الذي يمثل هاجسا مستمرّا لدول الاتحاد الأوروبي. ومن جهة ثانية، هي تخاف من روسيا، الدولة العظمى ذات «المخططات المجهولة والتي لا يمكن الوثوق بها». انتهت الأمور بتنفيذ المشروع بمباركة ألمانيا ورضاها، بل يمكن القول أنّ «نورد ستريم» عبّر وبوضوح عن عدم وجود رؤية أوروبية موحدة لقضية الطاقة، ولولا المنفعة الألمانية المباشرة منه، لما أنجزت الخطّة من الأساس. لم تنفع التطمينات الروسية على لسان رئيسها في ذلك الحين ديميتري ميدفيديف، الذي أوضح أن هذا المشروع يأتي «لتلبية مصالح جميع الدول في القارة الأوروبية وعلى نحو متساوٍ»، فظلّ «نورد ستريم» بالنسبة إلى الأوروبيين ستاراً لما هو أعظم: «الهيمنة الروسية».
يدلّ «نورد ستريم» على أنّ المواجهة الروسية الأوروبية سبقت الأزمة الأوكرانية


يمدّ ألمانيا (وبالتالي أوروبا) بالغاز الطبيعي الروسي، أنبوبا «نورد ستريم»، اللذان يتسعان لـ 55 مليار متر مكعّب من الغاز، ويمرّان تحت مياه بحر البلطيق، انطلاقاً من روسيا لتنتهي رحلتهما على الساحل الألماني على مسافة 1224 كلم، من دون حاجة لأية دولة وسيطة. وبهذا، يكون «نورد ستريم» المشروع الأضخم والأوّل من نوعه لإمداد الغاز الطبيعي، وأطول أنبوب لنقل الغاز تحت الماء في العالم. ولعلّ أبرز الدوافع التي حثّت روسيا على الشروع ببناء هذين الأنبوبين، هو عدم حاجتها إلى دولة وسيطة تستخدم أراضيها لمدّ الأنابيب منها، ما يجعل قدرة تحكّمها في تدفق الغاز الطبيعي أكبر، وهو لا يعني التخلّي عن الدول التقليدية الناقلة للغاز، أي أوكرانيا وبيلاروسيا، بل يعني سعيها إلى التنويع في طرق إيصال الغاز إلى السوق الأوروبية.

الحرب الروسية الباردة اقتصادية

إذاً، خلق «نورد ستريم» جدلاً حتّى قبل الشروع ببنائه، ما يدلّ على أنّ المواجهة الروسية الأوروبية سبقت الأزمة الأوكرانية بكثير، وما ظنّه العالم فترة سلم، هو في الواقع فترة التحدّي الصامت المنذرة بحرب باردة جديدة. روسيا بدأت بتنفيذ هذا المشروع المتوافق مع مصالحها الاقتصادية والسياسية، في ظلّ حذر الأوروبيين من وضع أعناقهم تحت رحمة الروس. فلقد استخدمت روسيا سلاح الطاقة في أكثر من مناسبة منذ عام 1991 ضدّ دول أوروبية، وضدّ من تعدهم في فضاء نفوذها أي دول الاتحاد السوفياتي السابق. ففي عام 2003 مثلاً، قطعت روسيا إمدادات النفط عن لاتفيا بسبب ارتفاع قيمة الرسوم، وعن ليتوانيا أكثر من تسع مرات بين عامي 1998 و 2000 لمنع الليتوانيين من بيع مينائهم وخطوط إمداد النفط والمصافي إلى الشركة الأميركية «ويليامز إنترناشونال»، فالحذر الأوروبي له مبرّرات. في الوقت عينه، تريد روسيا تحرير نفسها من وجود أية دولة وسيطة ناقلة للغاز الطبيعي ما قد يعيق وصول هذا المورد، وخصوصاً بعد تجربتها مع أوكرانيا في عام 2009 حيث حصل خلاف على سعر النقل بينهما، ما أجبر روسيا على قطع الإمدادات وأعاق وصولها إلى السوق الأوروبية، وهو أمر سلبي لروسيا بقدر ما هو سلبي لأوروبا.
مع ذلك، تمكّنت روسيا من تكريس نفسها قوّةً مصدّرة للطاقة، وخصوصاً أنّ أرضها الغنية بالموارد الطبيعية تحتضن أكبر احتياطي غاز طبيعي في العالم، واحتياطي نفط هائلا، بحسب دراسة حول «السياسة الروسية الخارجية في ضوء مصادر الطاقة» نشرها المعهد العلمي الأوروبي، وكتبتها المتخصصة في الشؤون الخارجية الروسية، توغتشي فارول، ما سمح بحسب الدراسة، بتطوّر اقتصادي لافت للبلاد، وعظّم أهمية الاقتصاد السياسي فيها. وجاءت السياسة الاقتصادية الروسية في الأعوام التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، مرتكزة على كيفية تعزيز أمنها الاقتصادي- قبل كلّ شيء- عبر مصادر الطاقة. من هنا، بدأت بتوسيع أسواقها وتطوير مشاريعها، و«نورد ستريم» عيّنة عن ذلك. ولم تكن الأزمة الأوكرانية إلا مثالاً لإثبات صوابية هذه الاستراتيجية الروسية، فورقة الطاقة هي إحدى أبرز أوراق القوة التي تملكها، وعبرها تمكّنت، رغم العقوبات الغربية عليها، من فرض المزيد من النفوذ.
ولم تخفِ روسيا استراتيجيتها القائمة على البنية الاقتصادية المتماسكة، ويتضّح ذلك في مرسوم صدر في عهد ميدفيدف عام 2009، تحت عنوان «استراتيجية الأمن القومي لروسيا الاتحادية حتى عام 2020»، يضم في خطوطه العريضة أن تضع روسيا في أولوياتها تطوّرها الاقتصادي، وهو ركن أساسي في الحفاظ على أمنها القومي، وأن روسيا تسعى إلى أداء دور أساسي على الصعيد الدولي يداً بيد مع دول «رابطة الدول المستقلة» والصين والقوى الكبرى الأخرى. وتشدّد الوثيقة على أنّ روسيا تعطي أهمية قصوى للتنمية الاقتصادية، وأنّ التطوّر الاقتصادي وحده هو الذي سيضمن مكانة روسيا في العالم كقوة عظمى.
ومع أن «كبرياء» دول الاتحاد الأوروبي تمنعها من الاعتراف بأنّ «نورد ستريم» ضروري لها ولا يمكنها الاستغناء عنه، فإنها تستفيد منه على نحو كبيرعلى صعيد أمن الطاقة وعلى الصعيد الاقتصادي؛ ينسحب ذلك على المملكة المتحدة وهولندا، اللتين قد تعودان وتقبلان توسيع مشروع «نورد ستريم» ليشملهما عاجلاً أم آجلاً. بمعنى آخر، وضعت روسيا أوروبا أمام الأمر الواقع وكأنها تقول لها: «أنا هنا ولا غنى لكم عني».