أحياناً تجد نفسك مضطراً للسؤال: لماذا هذا الإصرار على الإذلال والإهانة؟ قبل عام ونيف، وُضع أعضاء المجلس الدستوري في ظرف مماثل. غير أن القيّمين على كراسيهم وقراراتهم، ابتدعوا لهم صيغة فيها شيء من الابتكار. يومها تغيّب ثلاثة منهم عن حضور الجلسات. فطار نصاب المجلس ومرّت جريمة التمديد للنواب من دون أن تتشظّى بدمائها أيدي الدستوريين. صحيح أن سجالاً أقرب إلى الأكاديمية أثير يومها، عن قانونية عدم الحضور وضرورة الاستقالة بعد ثلاثة غيابات. كما طرح موضوع أعمق من القانونية، مرتبط بالأخلاقية، حيال واجب القاضي في إحقاق الحق، وتنكّره لرسالته وقسمه وعلّة وجوده عند الاستنكاف عن ذلك.
لكن المسألة مرّت من دون أثر مكتوب. من دون وثيقة تدين ولا كتابة تفضح. ظل الارتكاب «شفهياً»، في سياق اللافعل، وخارج المدوّنات الدستورية الباقية والموروثة للأجيال.
قبل أيام اختلف الأمر. جيء بعشرة دستوريين ليعلنوا – بالإجماع – أن الديمقراطية وجهة نظر، وأن إرادة الشعب مسألة استنسابية، وأن انبثاق السلطة قضية مزاجية، وأن كل العهود الدولية المنضمّة إليها الدولة اللبنانية، مجرد نظريات. جيء بعشرة دستوريين، ليقولوا للتاريخ، وللقانون الدستوري عبر العالم، ولمصنّفات الفقه التي يستوحي منها دستورنا وقوانيننا واجتهادنا، أن الديكتاتورية ممكنة ديمقراطياً. لا بل يمكن تصديقها دستورياً. بكل بساطة، يكفي لأي مجموعة أن تخوض انتخابات نيابية ذات يوم مرّ عليه الزمن. بعدها تقيم المجموعة نفسها سلطة تنفيذية عاجزة فاشلة فاسدة مفلسة. حتى أنها ترفض إجراء انتخابات ملزمة. وقبل افتضاح جرمها، يخرج من المجموعة نفسها نائب واحد، فيجتهد بأن الظروف استثنائية والأحوال قاهرة. وأنه بعلمه الموسوعي قدّر نيابة عن سواه، أن وزيراً ما عاجز عن إجراء الانتخابات. تسكت أكثرية السلطة التنفيذية، وتلبث متفرجة. ثم تبصم أكثرية تشريعية على إلغاء الانتخاب لأجل طويل، يحدده بصّارو أصحاب اقتراح التمديد ومنجّموهم. وأخيراً يأتي دستوريون معيّنون – وممدّد لهم هم أيضاً بعد انتهاء ولاية أعضاء الدستوري أنفسهم وبقائهم في كراسيهم - ليصدقوا على إلغاء الديمقراطية، ويتحول نظام كامل إلى الديكتاتورية بالانتخاب!
كانت ثمة آمال باقية، هي أقرب إلى الأوهام عن وطن ودولة وديمقراطية ومؤسسات وقضاء، لا تزال عالقة لدى آخر المواطنين، ومعلقة على أعضاء المجلس الدستوري. وكانت ثمة فتحات لا تزال قائمة في البال، حيال جدار الأزمة السميك. لكن يمكن التأكيد أن قرار المجلس الدستوري يوم الجمعة الماضي، نجح في إسقاط كل هلوسات الدولة وفي تنظيف كل المخيّلات النموذجية. لا بل يمكن التأكيد بأن محدلة التمديد ــــ بدبلوماسييها الدوليين وسياسييها المحليين ودستورييها المنفذين ـــ نجحت في تحقيق أهداف عدة دفعة واحدة.
هدف أول هو الحفاظ على السلطة. وهو هدف قائم في ذاته ولذاته، كما يقال فلسفياً. فتصير السلطة غاية ووسيلة معاً. السلطة هي الأداة للحفاظ على السلطة. والسلطة هي الغاية التي تسخّر السلطة للحفاظ عليها. هكذا ندخل في حلقة جهنمية، أخطر ما فيها عبر التواريخ، وتاريخنا منها، أن مثيلاتها السابقة لم تكسرها إلا الثورات والحروب والعنف والدم.
هدف سام كبير آخر حققه كلام الدستوريين المكتوب بالإجماع، ألا وهو حرمان اللبنانيين من أي فرصة لكسر المأزق الذي دخلوه منذ 25 أيار الماضي، تاريخ شغور الرئاسة بعد فراغها أعواماً. كانت ثمة فرصة عنوانها أن إجراء انتخابات نيابية الآن، سيحرك مستنقع التوازن ولو بهوامش طفيفة، لكنها ستكون كافية للضغط بغية حسم الأمور. كانت ثمة قوتان رئيسيتان في البلد، معنيتان بالرئاسة، وكان ثمة بطريرك مؤتمن على الموقع كذلك، وكلهم يقولون: فلتجر الانتخابات ومن يظهر فيه مسيحياً أول يكون رئيساً مستحقاً. كانت الفرصة الوحيدة المتاحة لبنانياً للخروج من الدوامة، فأجهضها الدستوريون ومن خلفهم.
هدف ثالث لا يقلّ وطنية وسيادية حقّقه القرار التاريخي العظيم، ألا وهو نزع القرار اللبناني من أيدي اللبنانيين وتسليمه إلى الخارج كلياً، وعلناً، لا بل تلزيمه للخارج مدة 30 شهراً قابلة للتمديد مرات على عدد أعضاء الدستوريين، تماماً كما أظهرت أعوام وصاية ماضية. تعطيل آليات تجديد النظام اللبناني ووأد أطر عمله الديمقراطية وقتل وسائل التغيير الشعبي من داخله، كل ذلك لا يعني إلا التنازل الطوعي الإرادي عن السيادة، وبتصديق دستوري خطّي مكتوب. إنه استدراج عروض وصايتية. كما الفراغ يستدرج عكسه، هكذا فراغنا الدستوري سيستدرج هيمنة بلا إذن ولا دستور، وفراغنا السيادي يصرخ لتعبئته بأسياد يعرفون كيف ينتخبون عندهم ويقررون عندنا، ويدركون ما معنى أن نعلن دستورياً إلغاء انتخاباتنا.
قبل أيام من النكبة، كان مسؤول حكومي سابق يجري جردة للأسماء. قال لسياسي كبير: فلان يبدو غير مضمون. فهو في الفترة الأخيرة ابتعد عنا قليلاً، ولم أعد في أجوائه... كان الخطأ الوحيد الذي ارتكبه دولته. إذ لا أحد غير مضمون. والإجماع كان مضموناً. عاشت الانتخابات المحظورة دستورياً! عاشت براءة حسني مبارك عدلياً! إنجازان قضائيان مكتوبان خطياً، سيكتب التاريخ عنهما الكثير.