أثارت مذكرات غونتر غراس (1927) لحظة صدورها باللغة الألمانية (2008) ضجة كبرى، لما تحمله من اعترافات خطيرة، اعتبرها بعضهم مخزية، لا تليق بكاتب يساري مرموق. لم يتردّد الكاتب الألماني الحائز جائزة «نوبل للآداب» (1999) بإماطة اللثام عن مرحلة مبكرة من حياته تتعلّق بانتسابه إلى الشبيبة النازية وإعجابه بهتلر، إلى درجة التقديس. كان فتىً في الثانية عشرة، حين اشتعلت الحرب العالمية الثانية، فانبهر بشخصية الزعيم الألماني بتأثير الحملات الدعائية التي كانت تبشّر بالنصر المحتّم. في المذكرات التي صدرت نسختها العربية أخيراً، تحت عنوان «تقشير البصلة» ( دار دال/ دمشق ــ ترجمة: عدنان حسن)، يكشف صاحب «طبل الصفيح» أدقّ أسرار حياته، مشبّهاً الذاكرة بالبصلة، والعمل على تقشيرها طبقةً طبقة، لاقتناعه بأنه «أثناء التقشير فقط تنطق بالحقيقة».
هكذا يستنفر ذاكرته باستدعاء مشاهد بعيدة من حطام طفولته وصباه في بلاد تعيش حرباً مدمّرة، وبؤساً أرخى بظلاله على تفاصيل حياته المبكّرة. لكنه وجد عزاءه بجمع الصور التي تتيحها قسائم بيع السجائر، مصمماً على امتلاك مجموعة كاملة منها، وقد كانت هذه الصور تضم نماذج من الفن الغوطي، وفن عصر النهضة، وعصر الباروك. على الأرجح فإن هذا الإغواء هو من قاده لاحقاً إلى التفكير بأن ينتسب إلى أكاديمية الفنون ليصبح نحّاتاً، متجاهلاً سخرية الأب من مهنة «يمكن أن تدخلك إلى الملجأ في أفضل الأحوال». لن يتخلى عن حلمه هذا، رغم المعوقات التي واجهها، إذ عمل خلال فترة من حياته في منجم للفحم، وفي معصرة للشمندر السكري، قبل أن يهتدي إلى المكان الذي طالما حلم بالانتساب إليه. هناك سيلتقي بروفيسوراً عجوزاً، ينصحه بالذهاب إلى أحد مشاغل نحت الحجر للتدريب على نحت حجارة الأضرحة، وهي أكثر المهن الرائجة، حتى في أسوأ الأزمنة «فالموت لا يأخذ عطلة». هذه الحقبة من حياته سيدوّنها بدقة في فصلٍ كامل من روايته «طبل الصفيح» متنقلاً بين أنواع الحجارة، وأشكال المطارق، وأزاميل البنائين، والفرق بين الرخام والغرانيت، وأنماط النقوش المحفورة فوق الحجارة. هنا سيبدأ حياةً جديدة، براتب شهري قدره مئة مارك، وبغرفة مستأجرة تابعة لأحد الأديرة، ومغامرات غرامية طائشة تحدث بالمصادفة مع عاملات هاتف، وممثلات مبتدئات، وممرضات. هكذا يغادر مرحلتي الجوع الأولى والثانية، نحو ما يسميه «الجوع الثالث»، أو شهوة الفن، فيلتهم بشراهة كل الكتب المتاحة أمامه، في مكتبة الكنيسة، كتعويض عن مرحلة دراسية لم يتمّها، بسبب مهالك الحرب «لقّمني الأب ستانيسلاو، ريلكه، ومجموعة مختارة من شعراء الباروك، وأوائل التعبيريين، وكل ما نجح في حمايته في المكتبة الفرانسيسكانية عبر الأعوام النازية». كما تعلّم الرسم، وأسرار النحت، لينخرط في العمل عن كثب، في إصلاح واجهات المباني التي دمّرتها الحرب حيث «كانت السقالات ترتفع في كل مكان، وآثار الحرب كانت تختفي قطعةً قطعة».
يلخّص مراتب حياته من خلال علاقته بالتبغ: من مرحلة الدخان اللف، إلى علبة السجائر، وانتهاءً بالغليون

في أكاديمية الفنون (دوسلدوروف) سيخوض نقاشات صاخبة حول ما خلفته الحرب من ندوب في الأرواح، وسيغرق في تشكيلات الصلصال سعياً وراء منحوتات أنثوية تعبّر عما يعتمل بداخله من نهم وشهوة لحياة مختلفة. إلى أن يقرر السفر إثر خيبة عاطفية عميقة، إلى باليرمو، ثم إلى روما، في رحلته الأولى خارج الحدود، وسيكتشف لاحقاً، مدناً أخرى في رحلات عابرة، قبل أن يستقر في برلين، أوائل الخمسينيات «كنت غنيّاً بالكلمات والصور التي لم تكن تعرف بعد إلى أين تذهب»، يقول. لا يتردد غراس بفتح الصندوق الأسود لحياته على الملأ، مستنفراً ذاكرة محشوّة بالوقائع الشخصية، وأحوال البلاد في تحولاتها، فللبصلة عدد وافر من القشور «وعندما تقشّر فإنها تجدّد نفسها، وعندما تُفرم فإنها تسيل الدموع». من جهةٍ أخرى، لا يضفي صاحب «أعوام الكلب»، توابل بلاغية على البؤس الذي رافقه في معظم محطات عمره المثقل بالأسى الطويل والبهجة الخاطفة، كأحد الناجين من «الأعوام المظلمة» للحرب، وفترة الطغيان النازي. ولعله حين يخصص فصلاً من مذكراته لعلاقته بالتبغ، فإنه يلخّص مراتب العيش، من مرحلة الدخان اللف، إلى علبة السجائر، وانتهاءً بالغليون. في المرحلة الأخيرة، يقطف ثمار الشهرة، وخصوصاً بعد صدور روايته «طبل الصفيح» (1959) التي كتبها خلال إقامته في باريس، إلى أن استقر مجدّداً في برلين، وهنا ينهي مذكراته بالقول «ومنذ ذاك الوقت فصاعداً، عشتُ من صفحة إلى صفحة، وبين الكتاب والكتاب، كان عالمي الجوّاني لا يزال غنياً بالشخصيات. لكن لن أتكلم عن ذلك كله، فإنني لا أمتلك البصل ولا الرغبة».
نطوي الصفحة الأخيرة من هذه المذكرات الغنية، ونحن نتساءل: هل هناك كاتب عربي لديه الشجاعة بتقشير البصلة كما هي تماماً؟