مونتريال | ليس الفساد العقاري حكراً على بلدان العالم الثالث؛ فعندما يتعرض أي اقتصاد لضربات مالية موجعة، تجده بكل مؤسساته معرضاً "لفعل كل ما يتطلبه الأمر" للاستمرار، ومنها تسجيل الأراضي بأسعار وهمية لتسريع بيعها، لعلّها غريزة البقاء الجماعية. ظهر هذا السلوك بألمع صوره أخيراً في البرتغال، البلد الأوروبي الذي كان من بين الأكثر تأزماً في القارة من جراء الأزمة المالية، إلى جانب اليونان وإسبانيا طبعاً.

فيزا ذهبية

طوّر هذا البلد الإيبيري نظاماً ناجحاً لجذب الاستثمارات الثمينة وسدّ الهوات التي خلقتها الأزمة في نظامه. في مقابل مبلغ معين – 500 ألف يورو – يُستخدم لشراء عقارات أو للاستثمار في أي قطاع طبقاً لتوجيهات السلطات، يحصل المستثمر على "فيزا ذهبية" تخوله البقاء في البلاد وفي منطقة شينغن برمتها لفترة خمس سنوات، يُمكنه بعدها تقديم طلب الحصول على الإقامة الدائمة، وفي نهاية المطاف الجنسية.
مُنحت قرابة 1800 فيزا ذهبية في إطار هذا البرنامج، وشهدت بلدان أخرى، تحديداً إسبانيا، نجاحات على هذا الصعيد. ولكن ما تكشف أخيراً هو أنّ بعض المسؤولين البرتغاليين، بتواطؤ مع السماسرة، ورشى من الزبائن، عمدوا إلى تسجيل عقارات بالسعر المذكور، فيما قيمتها الفعلية هي دون ذلك.
أُلقي القبض على "الشبكة"، واضطر وزير الداخلية إلى تقديم استقالته، وأظهرت الحادثة ما يُمكن أن تصل إلى المؤسسات وأنظمة الشفافية في حال جفاف السيولة!

أزمة مستمرة

إنها أوروبا التي لم تخرج بعد من أزمتها المالية التي أظهرت الخلل الهيكلي الذي يعتري تركيبتها، وتحديداً في إطار منطقة اليورو.
صحيح أنّ القيّمين على السياسات النقدية في القارة تعهّدوا "القيام بكلّ ما هو متاح" لحماية العملة الموحدة والنظام المالي الأوروبي برمته، إلا أنّ العاصفة مستمرة ولا يبدو أنها ستهدأ قريباً.
في بداية هذا الأسبوع، هوى اليورو إلى أدنى مستوى له أمام الدولار خلال أكثر من عامين (1.2247(. هكذا خبر يُفترض أن يكون إيجابياً لبلدان تلهف لتعزيز تنافسيتها في الأسواق الخارجية: كلما يتراجع سعر صرف عملتها، تصبح بضائعها أرخص في الخارج، وبالتالي زادت صادراتها، كما تُصبح زيارتها أكثر إغراءً كونها تصبح أرخص للسياح والوافدين.
غير أنّ تراجع اليورو في هذه المرحلة لا يدعو إلى السعادة. فقد جاء بعد تعليقات سلبية جداً من أحد أعضاء المجلس الحاكم في المصرف المركزي الأوروبي (أي المؤسسة التي تُعنى بصحة وسلامة العملة). قال إنّ الاتحاد النقدي يمر بمرحلة "ضعف هائل" وحذّر من أن المنطقة قد تدخل في مرحلة انكماش في حال تراجع معدل التضخم أكثر في الربع الأول من عام 2015.
تتنوع العلاجات المطروحة
لأوروبا، ولكن عليها أن تحسم خياراتها سريعاً، فالعالم يمضي إلى الأمام وهي تزداد عجزاً

هكذا تحذيرات ليست جديدة، غير أنها تأتي في وقت يُفترض أن تكون فيه القارة قد فرغت من ترتيب شؤونها الطارئة وبدأت البحث عن كيفية تعزيز بنيتها الهيكلية. أكثر من ذلك، هذا الطرح يفترض أن منطقة اليورو قد تدخل عقدها الضائع الخاص – في مقارنة مع ما شهدته اليابان في بداية التسعينيات نتيجة دوامة الانكماش التي علقت بها – وأن عام 2015 قد يكون بدايتها.

تحذير من انكماش

وقد توالت أخيراً التحذيرات في هذا السياق. فقد قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن منطقة اليورو قد تشهد تقلصاً في اقتصادها خلال العام المقبل، وذلك بعدما نما هذا الاقتصاد بمعدل ضعيف جداً بلغ 0.2% خلال الربع الثالث من العام الجاري وبعد توسّع بنسبة 0.1% فقط خلال الربع السابق.
هذا الوضع الصعب يدفع كثيرين إلى ترقّب إجراءات جذرية من المصرف المركزي الأوروبي، وتحديداً من قائده صاحب الكاريزما التطمينية، ماريو دراغي. الإجراء الأهم في هذا الإطار يكون بصوغ برنامج تسيير كمي (Quantitative Easing) يقضي بأن يشتري المركزي سندات الدين السيادي الأوروبي من المصارف، وبالتالي يُحرّر السيولة للاستثمار، ويبعث جواً من الاستقرار بين عواصم القارة.
وقد اعتمدت الولايات المتّحدة برنامجاً مماثلاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة بقيمة تفوق 80 مليار دولار شهرياً، ولم تتخل عنه إلا أخيراً.
قد يُثمر هكذا برنامج حسنات كثيرة على مستوى الدعم الاقتصادي في القارة، وقد يُشجّع رجال الأعمال – الأوروبيين والأجانب - على فتح خطوط الائتمان للاستثمار والتطوير. غير أنّه لا يعني أن مشاكل القارة انتهت بهزّة عصار سحرية.

فالمصارف هناك تبقى ضعيفة أمام الدين السيادي الهائل، الذي يفوق 9 آلاف مليار يورو - وأمام المشاكل الهيكلية التي تعاني منها بلدان القارة. وأي انطلاقة جدية يجب أن تُعنى بمعالجة مشاكل أبعد من التعقيدات التي تُظهرها آليات السوق.

هل يستطيع النجاة؟

تركّز ورقة نشرها الباحث الاقتصادي من جامعة باريس – سوربون، جمال حيدر، تحت عنوان "هل يستطيع اليورو النجاة؟" على مجموعة العوامل الأساسية لاستمرار العملة الأوروبية الموحدة.
أولاً، صحيح أن إنقاذ البنوك والحكومات المأزونة مهمة لا بد منها (مهما كانت سلوكيات تلك المصارف شريرة!) إلا أنّ لهذا الإنقاذ قواعد، وربما يكون العلاج هو بالمرض نفسه. "بهدف زيادة الفاعلية واحتواء مخاطر الانفلات الأخلاقي يجب ألا يكون الإنقاذ كاملاً" تقول الورقة. فمن جهة، يدفع الأمر المصارف والحكومات إلى ترشيق ميزانياتها في ظلّ الخطر الموجود، ومن جهة أخرى لا يُبقي المستثمرين خمولين أمام واقع أن أحداً لن ينهار في أوروبا، وبالتالي يُمكننا النوم قريري الأعين.
ثانياً، عمليات الإنقاذ يجب أن ينفذها المصرف المركزي الأوروبي نفسه. فحجم الديون البالغ 9 تريليونات يورو، يقابله مبلغ متواضع نسبياً يبلغ 200 مليار يورو لدى الصندوق الأوروبي لتعزيز الاستقرار المالي: وبالتالي لا يُمكن تأمين الدعم لكل من يحتاجه، من هنا الحاجة إلى قدرة المركزي على الضخ وتحقيق التوازن.
ثالثاً، يجب إعادة رسملة المصارف لاحتواء أي ثغر تتحول إلى أزمة في المستقبل، ويُمكن أن يساهم الصندوق المذكور في تأمين النقص.
رابعاً، إنّ ضمان الاستدامة المالية يفرض سلوكاً مالياً منضبطاً على موازنات بلدان المنطقة، وبمستوى أكثر صرامة من توجهيات الاتفاقيات الأوروبية.
قد تتنوع العلاجات المطروحة لأزمة أوروبا، ولكن على القارة أن تحسم خياراتها سريعاً، فالعالم يمضي إلى الأمام وهي تزداد عجزاً.