ببلوغه الستين، قرّر واسيني الأعرج، أن يروي سيرته الذاتية، تحت عنوان «سيرة المنتهى: عشتها كما اشتهتني» (دار الآداب). الإحالة الجزئية على مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز «عشتُ لأروي» ليست مصادفة. ذلك أن العيش هنا، يشتبك مع نصوص صاحبه، سواء لدى الروائي الكولومبي، أو الروائي الجزائري، لجهة توظيف الوقائع الشخصية في نسيج العمل الروائي، فيتضافر الاثنان في مدوّنة واحدة. يفتتح واسيني سيرته باستعادة شريط طويل من حياة جدّه الموريسكي إلروخو، خالعاً ظلّه على الحفيد التائه بين أندلس الأمس، وأزقة تلمسان اليوم، كما لو أنه في حضرة طقس صوفي، يتكشف تدريجاً عن حياةً خشنة، وأوجاع وتيه. ألم نقرأ شيئاً من هذا القبيل في روايته «البيت الأندلسي»؟ هكذا تتسرّب سيرة الحفيد بموازاة سيرة بلاد غارقة بالأساطير والأوهام والأسرار.
وما هذه السيرة إلا محاولة لتفكيك الألغاز في دروب حياته المتشظية بين طهرانية الجّد، وتفتّح حواس الحفيد، في حمّام النساء أولاً، ثم حين قادته خطواته إلى «بورديل عيشة» بصحبة ابن عمه رامي، ليتعرّف هناك على «مينا»، إحدى نساء الماخور الحزينات. هناك، يشغف بها إلى حدّ العشق، منصتاً إلى أوجاعها وانكساراتها وفداحة الفاتورة التي ستدفعها أخيراً، تحت بند «جريمة شرف». سوف يتحوّل المكان بعد الانقلاب العسكري (1965) إلى فندق فاخر يديره ابن العم الذي أصبح أحد رجال الأعمال الكبار في تجارة النساء. باعتقال الأب الذي كان عاملاً مهاجراً، أيام الاستعمار الفرنسي للجزائر، ثم استشهاده، يلجأ الابن إلى حضن الجدّة، ثم الأم، ولعله هنا، يلتقط البذرة السحرية للحكاية، لتنمو في خياله لاحقاً، خصوصاً بعد أن تقع بين يديه باكراً، نسخة من «دون كيخوته» لسرفانتس، وجدها في مكتبة شقيقه الأكبر. كما سيقوده معلم الفرنسية، خلال دراسته الثانوية، إلى كنوزٍ أخرى من كلاسيكيات الأدب العالمي. لحظة سحرية أن يجتمع بجدّه الثاني سرفانتس الذي سبق أن ساقته أقداره إلى الجزائر أسيراً، بعد معركة بحرية بين أسطول الملك الإسباني فيليب الثالث، والأسطول العثماني. ما بين ضفتي الجّد الحقيقي، والجّد الروحي، تنشأ مدوّنة واسيني الأعرج بكل محطاتها بين الأمكنة، مثل «دون كيشوت» آخر، يعيش حلماً غريباً، يلتقي خلاله سرفانتس في محاورة طويلة، سوف تكون بمثابة ترميم لزمنٍ ضائع، وأرضٍ مسروقة، ومنافٍ طارئة.
يفرد نحو 200 صفحة لسيرة جدّه الأول وما يعادلها عن جدّه اللغوي سرفانتس
يخبره بقوله: «هذا الكتاب التصق بي كما التصقت بي ألف ليلة وليلة، وصنعا جزءاً مهماً من مخيّلتي». يشير هنا، إلى أنه اتكأ في روايته «حارسة الظلال» إلى بعض من سيرة سرفانتس في الجزائر ومحبوبته زريدة التي سيلتقيها في غفوة قصيرة. سيروي لها بعضاً من وقائع الإرهاب الذي طاول الجزائر في تسعينيات القرن المنصرم، متذكّراً وجوه أصدقائه الذين ذهبوا ضحية هذا العنف الجهنمي، مروراً بترحاله بين مدنٍ كثيرة، وصولاً إلى الشيخ محيي الدين ابن عربي، كطوافٍ أخير. لن يجد القارئ المتلصص، ما يرغبه من اعترافات عميقة، أو مكاشفات جريئة، يُفترض أنها تضيء المناطق السريّة في حياته. وسوف يُخذل أيضاً، في الحصول على جرعات زائدة من الإثارة، أو الأسرار الشخصية، خصوصاً أنه لجأ منذ عتبة هذه «الرواية السيرية» إلى الذهاب نحو لغة هجينة تتراوح ما بين الشطح الصوفي والتخييل الروائي والوقائع العمومية. يلتفت إلى حيوات من عايشهم وعايشهن، أكثر من اهتمامه في نبش ما يخصّه مباشرةً، إذ يستطرد بإفراط في سرد أحداث جانبية، تكاد تنسينا أننا حيال سيرة، حين يفرد نحو 200 صفحة لسيرة جدّه الأول، وما يعادلها عن جدّه اللغوي سرفانتس. لكننا لن نقع على النبرة التهكمية ذاتها في متن هذا النص المتشعب، أو صلة قربى تخييلية صريحة، وهو بذلك «ينجو» من محاكمة سيرته الشخصية المضمرة، عبر جسور متاهة لغوية يصعب القبض على حيثياتها مباشرةً، مثلما يُفترض بسيرة ذاتية. بناء على ذلك، يبدو أننا سننتظر طويلاً، اعترافات شجاعة من كاتب عربي، يبحر خلالها عكس التيار، كما فعل محمد شكري في «الخبز الحافي»، إذ بقيت هذه السيرة الملعونة يتيمةً إلى اليوم. اللافت أن صاحب «رماد الشرق» اكتفى بوضع اسمه الأول على الغلاف «واسيني»، ولا ندري ما المقصود تماماً من إهمال كتابة اسمه كاملاً، خصوصاً أن هذه السيرة صدرت في ثلاث طبعات عربية (دبي- الجزائر- بيروت) في توقيتٍ واحد. كأن المبدع العربي، على وجه العموم، يكتب سيرته الذاتية بقصد الحصول على شهادة حسن سلوك من مختار الحي، في المقام الأول، أكثر من ولعه في إماطة اللثام عمّا هو مخبوء في بئر الذات العميقة. في المقابل، ربما كان محقاً بذلك، ففي حال فكّر بفتح «الصندوق الأسود»، سيجد نفسه على هيئة فضيحة تمشي على قدمين، وسط حشد من الملائكة الورعين.