ثمة مفاهيم كانت ستبقى ملتبسة لو لم يبادر النائب نقولا فتوش إلى توضيحها: أولاً، حين يبقى النائب نائبا منذ عام 1992 برغم تغير المزاج الشعبي والباصات والوصايات، فإنه يثبت مواكبته للناخبين لا براعته في قول «عمّي» لكل من يأخذ أمه. وهو دأب على وصف زحلة بأنها أمه. ثانياً، حين توقف الحكومة عمل كسارة يجب عليها دفع التعويضات لأشقاء النواب أصحاب الكسارة بدل تغريمهم. والكسارات بالمناسبة «حاجة وطنية اقتصادية».
ثالثاً، حين يقول نائب لموظفة «غصباً عن رقبتك ستنفذين المعاملة» فإنه يؤكد حرصه كممثل للشعب على إلزام الموظفين في القطاع العام بالقيام بواجباتهم. رابعاً، حين يسعى النائب لشغل الرأي العام عن فضيحته، بحياة أحد موكليه الجنسية، يكون خارق الذكاء. خامساً، «حقوق الانسان والبيئة تحاميل يخدّر بها الغرب الشعوب الضعيفة». سادساً، مزاحمة الكسارات غير المرخصة للكسارات المرخصة تعزز «خشية البابا بنيديكتـوس السادس عشـر من اختفـاء المسيحييـن مـن الشـرق».
حليف حزب الله محامي الدفاع عن العميل زياد الحمصي
سابعاً، «لو طلب مني أحدهم الاعتذار على أمر لم أرتكبه لحطمت غرفته». ثامناً، «على الضيم والله ما ننام، الموت ببوز البارودة». تاسعاً، الاحتجاجات المختلفة على أدائي ترمي إلى النيل من «مواقفي الوطنية السياسية الإنقاذية». وأخيراً، تحذير غالبية مرجعيات زحلة من الآثار البيئية السلبية لأحد المشاريع الاقتصادية هو «كيدية سياسية وافتراء وتزوير لحرمان أهل المدينة فرص العمل التي يوفرها المشروع». أما الوسيلة الأفضل للرد على استقصاءات الصحافيين، فتكون بضربهم وترهيبهم بدل الإجابة عن أسئلتهم. وما عليكم في اليوم التالي لكل واقعة مما سبق تعداده سوى السير بافتخار واعتزاز، مستهزئين بعجز الدولة عن المس بكم وبمرافقيكم.
سياسياً يمكن وصف النائب نقولا فتوش بالرجل العصامي: هو لا يتحدر من عائلة سياسية توزع المقاعد النيابية على أبنائها المدللين، ولا هو حزبي شمله عطف زعيم الحزب. عائلته متوسطة حجماً ومالاً تنقسم ثلاثة أجباب؛ اثنان منها غير فتوشيين بالمعنى السياسي للكلمة. تتعدد الروايات الزحلية بشأن والده الذي توفي في السجن، فيما تجمع الروايات نفسها على أن الوالدة أدت الدور الرئيسي في تربية الأبناء الخمسة، وفي إدارة أعمالهم وتعزيز لحمتهم. وهي ترقد محنطة منذ أكثر من سبع سنوات في نعش زجاجي بكنيسة قرب بناية عائلتها. تنقّل زعيم الإخوة بيار فتوش «من هالك إلى مالك» فضباط آخرين في الاستخبارات السورية ليتمكن من توسيع تجارته في الحديد، ولتصبح شركته طوال أكثر من عقدين المصدر شبه الوحيد للحديد في سوريا. صار بيك آب البحص كسارة، وكيس الترابة معملاً. وبموازاة توسعهم المحلي، توسعوا في مجالات أخرى في أرمينيا خصوصاً وإيران وعدة دول أفريقية.
في عام 1992 نام وليد شويري نائباً عن زحلة يوم الانتخابات، بعدما تقدم فتوش بحسب محاضر القيد بأكثر من مئة وثلاثين صوتاً، إلا أن بيار فتوش لم ينم، وكذلك وزارة الداخلية، فاستيقظ نقولا فتوش (المرشح على لائحة إيلي سكاف) هو النائب. ومذاك غدا الكرسي النيابي جزءا لا يتجزأ من عدة عمل الأسرة الزحلية. أما الرئيس رفيق الحريري، فثبته لشدة إعجابه به في وزارة السياحة، في ظل اتكال الحريري على السياحة بدل الصناعة والتجارة والزراعة لتنشيط البلد. مع ذلك، رغم كل التوسع المالي والسياسي، يحافظ الإخوة الخمسة أو الزعامة الفتوشية على ثلاثة مظاهر رئيسية: أولاً، تحاشي أي مظهر من مظاهر الرفاهية. فهم ما زالوا يقطنون في البناية التي ترعرعوا فيها في حي مار مخايل، لا قصور ولا فيلل ولا بيوت في بيروت، أو شاليهات في المنتجعات السياحية برغم أنهم يملكون عدداً كبيراً من العقارات في قضاء زحلة وجواره. حتى المبنى الذي شيّدوه أخيراً حولوه إلى مكاتب لعملهم. أما سياراتهم اليوم، فهي نفسها سياراتهم قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، فيما عمر سيارة النائب نقولا فتوش المرسيدس كاد يتجاوز الثلاثين عاماً. ثانياً، الظهور بمظهر المتدينين الورعين. فمن تكنيس الكنيسة المجاورة لمنزلهم وتنظيفها يوم السبت، إلى ترميم عشرات الكنائس وتشييد أخرى. وقد حشدت العائلة في أكثر من مناسبة، معظمها له علاقة بالكسارات، الطائفة الكاثوليكية خلفها. وغدا المس بفتوش مساً بالطائفة. ثالثاً، إبقاء المنزل مفتوحاً وإيلاء مطالب الزحليين اهتماماً استثنائياً لتكريس انطباعهم بأن فتوش موجود معهم في أفراحهم وأحزانهم، وهو يركض أمامهم وجاهز دائماً لخدمتهم.
قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري اشتهر فتوش بصورة مميزة للرئيس الراحل حافظ الأسد كان يزين بها صالون منزله، وبأخرى للمسؤول عن أمن الأسد، اللواء ذي الهمة شاليش. ومع ذلك ترأس فتوش، بعد خروج الجيش السوري واستخباراته من لبنان، لائحة 14 آذار في زحلة عامي 2005 و2009. وهو نجح وحده في اختراق لائحة سكاف عام 2005 بفعل الناخبين الأرمن وقلم الدلهمية. أما عام 2009 فوقف في بلدة سعدنايل خاطباً: يتساءلون زحلة لمن؟ نجيبهم زحلة لك يا شيخ سعد، لكن بعد فوز اللائحة كاملة احتج رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على بقاء نواب المدينة تحت جناحي فتوش، متمسكاً بإحلال وزيره سليم وردة محله في حكومة الرئيس سعد الحريري. وهكذا أخرجت قوى 14 آذار فتوش من صفوفها، ولم تحل زيارة السفيرة الأميركية مورا كونيلي له في زحلة دون تسميته الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 لتأليف الحكومة، فرد له ميقاتي الجميل بوزارة من دون حقيبة، فضلا عن استعداده اليوم لتوفير الفذلكات القانونية لكل تشريع يحتاج إليه الرئيس نبيه بري، هو يطالب بمحاكمة كل من ينتقد الرئيس السوري بشار الأسد وفقاً لقانون العقوبات، مشيراً إلى أن الأسد تحول من رئيس دولة شقيقة إلى رمز لكل أحرار العالم. حليف حزب الله «الموضوعي» ليس سوى محامي الدفاع عن المحكوم بالتعامل مع الاستخبارت الإسرائيلية زياد الحمصي، والمحتفي بخروجه من السجن. زعيم 14 آذار سابقاً بات الممثل شبه الوحيد لقوى 8 آذار في زحلة. وبناءً عليه فإن جزءاً مهماً من حماسة 14 آذار للحملات على فتوش ـــ المحقة بغالبيتها ـــ يكمن في معرفتها أنه الشريك شبه الوحيد للتيار الوطني الحر في أي انتخابات نيابية، في ظل تمسك الوزير السابق الياس سكاف بوسطيته ورفضه التحالف الانتخابي مع أحد الفريقين.




معمل الويسكي والاستخبارات الفرنسية

بعيداً عن حماسة آل فتوس المستجدة لتحطيم صورتهم أكثر فأكثر، من دفاع النائب نقولا فتوش عن اعتدائه على الموظفة في العدلية إلى تشدقه بالتمديد، فمجاهرته بقضايا عائلية تخص موكليه والمدعى عليهم وحدهم، لا يمكن فهم حاجة العائلة الثرية إلى معمل مثير للشبهات في الحي السريانيّ (أو ما يعرف بالمدينة الصناعية) في زحلة اليوم، وخصوصاً أن فرص العمل التي تلطى خلفها بيار فتوش أخيراً لم تكن يوماً أولوية عند أسرته. فبدل توفير مشاريع سياحية تبقي منطقة البردوني مزدهرة، اكتفى النائب نقولا فتوش بحفظ أبيات الشعر التي تتغنى بالنهر الزحلي. وبدل السعي إلى إعادة تشغيل محطة القطار من رياق وإليها، اكتفى فتوش باستحداث متحف يذكّر بأيام القطار الغابرة. وبدل تعزيز صناعة العرق الزحلي وتوفير أسواق دولية له، اكتفى بتعزيز صناعة الويسكي في معمل عائلته الخاص، وبتوفير أسواق محلية ودولية له. مع الأخذ بالاعتبار أن اعتداء حراس فتوش على فريق عمل تلفزيون «الجديد» ليس الحادث الأول من نوعه، إذ سبق للنائب الزحلي أن ادعى عام 2003 على أحد المراسلين في زحلة بأنه عميل للاستخبارات الفرنسية!