«سأدخن الحشيش حتى يصيبني العمى/ سأدخن الحشيشة مع أصدقائي/ سندخن حتّى النهاية»، إنه مطلع الأغنية الأشهر حول العشبة الأشهر التي يغنيها مطرب الريغي الأشهر. غير أن الراحل بوب مارلي لم يكن مضطراً إلى الكتابة المباشرة عن تعلقه بسيجارة الكيف لنعرف موقفه منها واستمتاعه بنكهتها وتأثيرها.
في عام 1976موّل الموسيقي الجامايكي جلسات التسجيل الأولى لألبوم يُعدّه صديقه، بيتر توش، بعنوان «شرّعوها» (Legalize it)، ولكن سرعان ما تحوّل التمويل إلى استثمار يعول عليه كبار التجار لكي تزدهر أعمالهم في المستقبل، عندما تؤثر أعمال فنية كهذه في السياسة العامة ـ عبر الضغط الشعبي ـ وتُصبح العشبة مشروعة، ويجب أن تؤمّن السوق عرضها السخي تلبية لطلبات متزايدة.
لم تتحول الأغنية إلى قانون صديق للعشبة، وذرف مارلي دموعاً كثيرة على صديقه، الذي تعرّض لضرب مبرّح أوصله إلى حد الموت، من عناصر الشرطة الحانقين على تجييشه للرأي العام ضدّ آليات القمع. ولكن بعد 40 عاماً بدأ حلم هذين الفنانين، وحلم مجموعات كبيرة من هذا العالم، بالتحقق، وإن تدريجياً. فالتجارب الرائدة على صعيد التشريع، وأبرزها في الأوروغواي بقيادة الرئيس ذي الأفكار التقدمية، خوسيه موخيكا، أضحت تولّد صدى في كافة الأقاليم. والولايات المتحدة، البلد المحتذى في النموذج الرأسمالي المعتمد، فتح باب النقاش على مصراعيه، وصوّتت ثلاث ولايات لمصلحة التشريع، ومن المرتقب أن تسجل ولايات أخرى تجارب مماثلة.
حتّى لبنان، البلد الذي كان يتعاطى مع مواسم الكيف بعقدة نقص/ تخلّف طوّرتها الدولة الطائفية التي أهملت أطرافها الغنية بهذه العشبة الثمينة، أضحى يتعاطى مع هكتارات الأعشاب المزروعة بقاعاً بنوع من الواقعية. هذه السنة، وللعام الثاني على التوالي، أُعفي الموسم من الإتلاف، وتوازى ذلك مع ارتفاع الأصوات السياسية الفاعلة، على رأسها صوت رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، بالدعوة، عبر تغريدات على موقع «تويتر»، إلى السماح بزارعة الحشيشة والمتاجرة بها لتأمين «دخل لائق لأهل البقاع».
نعم، تؤمّن زراعة الحشيشة مداخيل محترمة للمزارعين وللتجار الذين يشتغلون بها، تماماً كما تؤمّن هي الشعور بالنشوة الفكرية في الرؤوس التي تشتغل بها. هي جزء من التجارة العالمية للمخدرات/ الممنوعات، التي يؤدّي حمل بضعة غرامات فقط منها إلى ليال أو أشهر في سجون بائسة.
بحسب بيانات هيئة الأمم المتّحدة للدواء، المنشورة عام 2014، فإنّ أكثر من 5% من سكان العالم استهلكوا أحد أنواع المخدرات مرة واحدة في الحد الأدنى خلال فترة العام المنصرم. تبرز الحشيشة على رأس اللائحة بعدد مستهلكين يقارب 200 مليون.
هذا الطلب المتزايد يخلق دينامية في السوق. في الولايات المتحدة مثلاً، يتراجع سعر الحشيشة على نحو سريع، ليعكس مستوى توسع الطلب على هذا المنتج ورواجه؛ بين عامي 2010 و2013 تراجع سعر الغرام الواحد قرابة 18%، ويهوي بسرعة صوب 10 دولارات.
بحسب التقرير الأممي نفسه، فإنّ البلد الأول في استهلاك الحشيشة هو إيسلندا؛ على الرغم من أن الاتجار بالحشيشة واستهلاكها يُعدان جريمة إلا أن خُمس شعب هذا البلد الأوروبي يدخنها. في المرتبة الثانية تحلّ زامبيا بنسبة 18% تقريباً ثم الولايات المتحدة تليها إيطاليا ونيوزيلندا.
غير أن معدل استهلاك الحشيشة في بلد ما، لا يفرض بالضرورة مكانته على مستوى النقاش العالمي حول هذه العشبة وأفقها. مثلاً، الأوروغواي التي تُعد البلد الأول الذي حرّر استهلاك الحشيشة من العقوبات، وأضحى تجربة اجتماعية وصحية قائمة، ليست من بين البلدان العشرة الأوائل لناحية معدل الاستهلاك.
كلّ النقاش حول التشريع وآلياته ضروري وجميل، ولكن برغم أهميته، هناك أسئلة مهمّة حول الإطار الذي ستتموضع فيه تجارة الماريجوانا ومستوى الليونة في توسيعه، وكذلك حول الانعكاسات على المراهقين وعلى الأنظمة الصحية برمتها، تبقى بعيدةً عن النقاش الحقيقي.
يركز أستاذ الصحة العامة في كلية الطب في جامعة «يال» (Yale)، سامويل ويلكنسون، في مقال نشره أخيراً في صحيفة «واشنطن بوست» على فكرة مهمة في هذا الإطار. يقول إن «المسار الذي تمضي عليه تجارة الماريجوانا في الولايات المتحدة حالياً يشبه إلى حدود كبيرة مسيرة صناعة التبغ خلال القرن العشرين؛ تطوّر الأمر سريعاً لسيجارة التبغ وبحلول منتصف القرن العشرين كان نصف البالغين في الولايات المتحدة يدخنون، وإذا مضت الحشيشة على المسار نفسه فإن المستقبل سيشتعل بالكاش في جيوب تجارها».
«يعود هذا النمو الهائل في استهلاك التبغ إلى مجموعة من الاستراتيجيات الناجحة» يُعلّق الطبيب. «أدت التغييرات في تركيبة السيجارة، إضافة إلى المواد الكيميائية، إلى تطوير نكهتها وقدرتها على جعل المستهلك مدمناً، وتوازى هذا الأمر مع اعتماد التقنيات الترويجية العدائية لتوزع قاعدة المستهلكين». ومن أبرز الاستراتيجيات على هذا الصعيد، كانت تقديم الأطباء في الإعلانات لـ «طمأنة» المستهلكين من أن استهلاك التبغ لا يضر بالصحة.
وهنا تبرز قضية «Marley Natural» (أي «نكهة مارلي الطبيعية») وهي ماركة مسجّلة لمصلحة الماكينة التجارية التي تُشغل اسم الموسيقي الشهير، والتي ستُسوّق عبرها حشيشة الكيف المصنعة في فانكوفر الكندية في بعض الولايات المتحدة التي شرعتها. هكذا تتحوّل الدعوات النقية التي كان يُطلقها بوب مارلي للتشريع، إلى ماكينة وقحة لتحقيق الأرباح يديرها ورثته بعد أكثر من 30 عاماً على وفاته.
يؤكّد هذا السلوك التجاري المنطق الرأسمالي الصرف في التعاطي مع هذا المنتج وتسويقه. إنه سلوك يحوّل مارلي إلى «رجل المارلبورو في عالم الماريجوانا» على حدّ تعبير إيان تومسون، صاحب كتاب «حكايات من جامايكا المعاصرة».
ووفقاً لمنطق البزنس، فإن التوليفة المطلوبة لتحقيق النجاح ليست صعبة: حدّد منتج يتمتع بالقدرة على زرع الإدمان في النظام العصبي لمستهلكه؛ طوّر تقنيات الإنتاج والتسويق، وخفّف إلى أقصى حدّ الانعكاسات المحتملة على الصحة.
اليوم يُمكن استهلاك الماريجوانا بطريقة التبخير لا الحرق لجعلها أكثر صحية، كذلك فإن أنماط الصناعة تصبح أكثر ابتكاراً: المكوّن الأساسي الذي يحفز السعادة في استهلاك المادة أضحى أعلى بكثير مما كانت عليه قبل عقود عديدة.
إذاً، لا شكّ أن التعاطي الرسمي مع الحشيشة يحتاج إلى مقاربة مختلفة، تحمل على متنها أفكارا تقدمية في العديد من البلدان التي تربطها علاقة وطيدة مع كنز الطبيعة هذا، وتحديداً في بلدان منتجة ومستهلكة في آن واحد مثل لبنان، ولكن في الوقت نفسه، لا بد من التذكير بأنه مع التشريع تأتي المسؤولية والأسئلة الكبيرة.
لا يُمكن الهروب من الخطأ في هذا المجال، ولكن هناك تجارب عديدة تُطبق في العالم حالياً، أبرزها في الأوروغواي، يجب أن تدرسها باقي المجتمعات. يُمكن التوصّل مثلاً إلى أن الدولة هي التي يجب أن تكون اللاعب الوحيد في تسويق الحشيشة بعد تشريعها وذلك لاحتواء مخاطر الدوافع التجارية ـ أي تعظيم الأرباح وتقليص الأكلاف، وبالتالي النوعية ـ لدى شركات القطاع الخاص لتحفيز الاستهلاك، وبالتالي الإدمان.
التساؤلات كثيرة حول طبيعة المجتمع بعد تشريع الحشيشة. قد يكون الأمر قد بدأ في لبنان بتغريدة لوليد جنبلاط، غير أن المضي قدماً صوب مجتمع يغرّد جماعياً، ولكن ليس عبر «تويتر»، يحتاج إلى بحث جدي أبعد من القدرة على إثارة متعة التجار والمستهلكين.




«نكهة مارلي» ممنوعة قي جامايكا!

العلاقة التاريخية لمجتمعات معينة مع الحشيشة ـ والوجوه الثقافية لهذه العلاقة ـ لا تعني بالضرورة تشريع استهلاك العشبة. مثلاً، في جامايكا التي تُعد العاشرة عالمياً لناحية معدل الاستهلاك ـ وهو يُقارب 10% في الجزيرة ـ لا تزال الحشيشة خارجة على القانون؛ وهذه قضية غريبة، بحسب المنتقدين. فأهل البلد الكاريبي يستعملون العشبة في مأكولاتهم، يغلونها للشرب يدمجونها مع مكونات طيبة لصنع الحلويات، وطبعاً يدخنونها للاستمتاع. والأهم هو أن الماركة العالمية الاولى التي ستؤدي دوراًَ أساسياً على الأرجح في تسويق الحشيشية عالمياً، أي «نكهة مارلي»، عصبها الأصلي جامايكي بامتياز. حالياً ينتظر أبناء الجزيرة قراراً مهماً من السلطات على هذا الصعيد، وبالانتظار سيُغضّ النظر عن حامل الحشيشة بكمية تصل إلى غرامين.