يُباع البرميل حالياً وفق العقود المتداولة في الأسواق المالية بما يتراوح بين 55 دولاراً و60 دولاراً – وهو مستوى يعادل نصف ما كان عليه في الصيف الماضي. هي أخبار سيئة للبلدان المنتجة التي يتكون غذاؤها الاقتصادي حصراً من الوقود الأحفوري. ولكن لبنان، وبناءً على التقديرات الحالية، سيفيد من تراجع في فاتورته النفطية بواقع 1.5 مليار دولار عام 2015؛ وهي حالياً عند 5.2 مليار دولار.

فأل خير

يُمكن القول إنّ تراجع أسعار النفط تُعد فأل خير للاقتصاد اللبناني المدمن على استيراد المحروقات؛ لنقل إنّه نقطة بيضاء لمصلحة أصحاب الدخل المحدود في بقعة السواد التي تسيطر على البلاد.
والأرقام المذكورة التي ترد في التقديرات الأخيرة لوحدة الأبحاث الشرق أوسطية في المجموعة المصرفية الأميركية Citi، ستنعكس أيضاً في تراجع التحويلات إلى كهرباء لبنان وبالتالي إلى تقلص النفقات العامّة بنسبة 1.5% تقريباً.
وللإضاءة على أهمية هذا الأمر، فإنّه تم تحويل 1.04 مليار دولار من الخزينة العامة إلى مؤسسة كهرباء لبنان خلال النصف الأول من العام الحالي، بارتفاع نسبته 10% مقارنة بالفترة نفسها بالعام الماضي، وذلك لدفع المستحقات المترتبة على استيراد الفيول والوقود، وأيضاً على الديون المتراكمة أي فوائدها.

كبح تحويلات المغتربين

صحيح أن لهبوط سعر النفط تأثير عكسي في الوقت نفسه على الاقتصاد كونه يكبح تحويلات المغتربين اللبنانيين تحديداً في منطقة الخليج – وهذه التحويلات عبارة عن تيار مالي يساوي خِمس الاقتصاد تقريباً ويُغذيه على نحو مستدام – غير أنّه يبقى إيجابياً في بلد يرهقه الفساد وسوء الإدارة في قطاع الطاقة.
هذه المسألة مهمة لدرجة أنّ مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا والوسطى في صندوق النقد الدولي، مسعود أحمد، جعلها محورية في تقريره الأولي بعد زيارته الأخيرة إلى لبنان. قال: "خلال نقاشاتي – مع المسؤولين اللبنانيين – شددت على أن تراجع أسعار النفط يؤمن فرصة مناسبة لإلغاء الإعفاءات المفروضة على رسوم وضرائب" المحروقات. وهو هنا، يقارب الأمر من المنظور الأحادي الذي يعتمده الصندوق، ولكن تلك قضية أخرى.
إذا كان العام المقبل هو عام التعويل على بقاء أسعار النفط العالمية منخفضة، فإنّ لبنان لا يُمكن أن يبقى كسولاً وغير فاعل

ستساهم أسعار النفط المنخفضة أيضاً في تعزيز الفائض الأولي الذي مُتوقّع تسجيله هذا العام. إذ استناداً لتقديرات صندوق النقد فإنّه نتيجة تحويلات أكبر من المتوقع من قطاع الاتصالات إضافة إلى كون الإنفاق الاستثماري أقل من المعدل وإلى أنه تم تعليق سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، سيتحوّل العجز إلى فائض أولي صغير هذا العام.

أكلاف التراخي تتراكم

غير أن مستقبل لبنان الاقتصادي والمالي لا يحسمه فقط سعر النفط، وإن كانت البلاد تتمتع بكميات هائلة من النفط والغاز تحت مياهها الإقليمية تنتظر التوافقات السياسية المحلية والدولية لاستغلالها.

"إنّ الحلول السياسية المدمجة، المباشرة وغير المتحيزة حزبياً مطلوبة حالياً لضمان مستقبل لبنان الاقتصادي" يُحذّر مسعود أحمد في تعليقه الأخير. يُشدّد على أنّ "انتظار التغيرات في البيئة الإقليمية والمحلية – لكي تولد حلاً - ليس استراتيجية تؤمن الحلول نظراً لأن أكلاف التراخي تتراكم".
في العام المقبل ستستمر الضغوط التي تشكلها الأزمة السورية والوجود الهائل للنازحين من هذا البلد العربي الذي نهشته الحرب؛ أضحى هذا الوجود يشكّل ربع سكان البلاد، وسيبقى النمو مكبوحاً دون 2% وفقاً لصندوق النقد.
غير أنّ المعطى الأبرز هو أنّ معدل الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، الذي عاد خلال السنوات الثلاثة الماضية إلى الارتفاع نتيجة ضعف النمو، سيتخطى عتبة 150%، وذلك للمرّة الأولى منذ عام 2008، حين كان فوق 163%. وجميعنا يذكر كيف أدى النمو المسجّل خلال سنوات الطفرة إلى توسع الاقتصاد واحتواء الدين الذي بدا في لحظة أنه غير قابل للهزيمة.

بدع جديدة

الخشية هي أن تؤمن هذه الأرقام للمنهج السياسي المعتمد حججاً لمزيد من التقشف وزيادة في معدلات الضرائب الجائرة. هذا المنطق يضمن أيضاً المضي قدماً في منطق حرمان شرائح هائلة من عمال هذا البلد من حقوقهم على قاعدة أن حقوقهم تضر بالأمن الاقتصادي؛ الحديث هنا هو عن سلسلة الرتب والرواتب وموظفي القطاع العام. (يُروّج لهذا المنطق مع تناسي أن زيادة المداخيل في أيدي العمال تحفزهم على الإنفاق، وتالياً تحريك عجلات اقتصادية كثيرة).
على أية حال، إذا كان العام المقبل هو عام التعويل على بقاء أسعار النفط العالمية منخفضة، فإنّ لبنان لا يُمكن أن يبقى كسولاً وغير فاعل. والمجال الأهمّ لإحداث تغييرات وربما خروق في حال شاءت المعطيات والقوى الفاعلة، هو مجال الطاقة. يقول صندوق النقد هنا إنّ الإصلاحات والاستثمارات الكبيرة ستكون حيوية لمعالجة العجز على مستوى فاعليّة إنتاج الكهرباء وكميته. "هذه الإصلاحات تؤدي أيضاً إلى خفض أكلاف اداء الأعمال وترفع من معدل النمو".
من جهة أخرى، يتابع تقرير صندوق النقد نفسه، فإن إقرار المراسيم النفطية الأساسية لإطلاق المسيرة في هذا القطاع من شأنه أن يرسخ سمعة لبنان كشريك استثماري موثوق.
يبقى هذا الكلام منسوجاً بمواد الأحلام. والشيء الوحيد المحسوم بالنسبة لاقتصاد لبنان ولماليته العامة في السنة المقبلة هو أن معدّل الدين إلى الناتج سيصبح فوق 150%، وسيستمرّ في الارتفاع بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي نفسه إلى قرابة 152% خلال العام اللاحق.
ومن شأن أرقام كهذه أن تشكّل القاعدة المثالية للاستمرار في إدارة البلاد بالعقلية نفسها.