الثلاثاء الأسود، مصطلح كثر استعماله في الصحافة العالمية لوصف التراجع الكبير الذي سجلته قيمة الروبل أمام الدولار الأميركي في السوق العالمية في هذا اليوم. إنها ليست خسارة، بل سقوط حر للعملة الروسية أمام الضغوط الخارجية والداخلية التي يواجهها الاقتصاد الروسي عموماً والسلطات النقدية خصوصاً. لم يأت رفع معدلات الفائدة الى حدود قياسية، بأي نتيجة تذكر. حتى المؤتمر الصحافي للرئيس بوتين الذي دام نحو ثلاث ساعات لم يؤد الى تحسن في الثقة بالقدرة على الخروج السريع من ازمة الروبل. هو نفسه وضع سنتين كإطار زمني للتعافي الاقتصادي. الا أنه من الواضح أن «الدب الروسي» الذي يقاتل من أجل الحفاظ على مخالبه وسطوته، كما أشار بوتين نفسه، استوعب الهجوم الأشرس الذي تعرض له منذ بدء الأزمة الأوكرانية في مارس الماضي. استوعب الهجمة لكنه بالتأكيد لم يتعاف منها.
في الايام الماضية نشطت وسائل الاعلام الغربية بالإكثار من المقابلات المباشرة مع المواطنين الروس والحديث عن القلق الذي يصيبهم بنتيجة الازمة. تتالت المقابلات، حديث مع ربة منزل تتكلم عن خسارة أكثر من نصف قيمة راتبها في يوم واحد. في محطة أخرى تقرير عن أحد المواطنين الروس الذي انتحر لعجزه عن استيعاب ما يحصل. البروباغندا الاعلامية الغربية، كعادتها، تلقفت الأزمة وسلطت الضوء على آثارها الاجتماعية الكارثية. من جهتها، ردت وسائل الاعلام الروسية المقربة من الكرملين بحملة دعائية تحض على الثقة بالاقتصاد الوطني والمقدرة على الخروج من الأزمة مع التركيز على شخصية القائد وتعظيم دوره الإنقاذي. في كلتا الحالتين كان المواطن الروسي، على الأرجح، بعيداً عن شاشة التلفاز لانشغاله في احتساب كيفية تأثر مدخوله وتغيير نفقاته بنتيجة ما حصل وما سيحصل. وفي كلتا الحالتين كانت الشفافية والموضوعية ابرز الغائبين.
الشفافية تقتضي تسليط الضوء على تصريحات رئيس الوزراء البريطاني «دايفيد كاميرون»، الذي اعلن بصراحة عن الحاجة الى المزيد من الضغوط على روسيا، لما فيه مصلحة للمملكة المتحدة وللديمقراطية على حدٍ سواء. ووصل به الامر الى حد الحديث عن عدم امكانية ابقاء روسيا ضمن النظام المالي العالمي. وفي السياق عينه أتى تصريح وزير الخارجية الأميركي، الذي تحدث عن امكانية تحسن وضع روسيا ورفع الحظر، اذا ما قدمت تنازلات في الملفات السياسية الساخنة وتحديداً في أوكرانيا. الكلام واضح لا لبس فيه، بل يمكن تشبيهه بخطاب إعلان الانتصار! انها سياسة الحكومات الغربية التي تقوم دائماً وأبدا على سلّة من العقوبات الاقتصادية «الغبية» التي تستهدف اكثر ما تستهدف الشعوب، وغالباً ما تتمكن الحكومات والانظمة موضوع العقوبات من الالتفاف عليها والتلاعب بها. الأمثلة كثيرة ومريرة. ايران والعراق (ابان حكم البعث) نموذجان واضحان لغباوة منطق العقوبات الاقتصادية. كوريا الشمالية نموذج آخر، حيث تصيب المجاعة الناس فيما لا يزال النظام قادرا على تطوير مخالبه الصاروخية.
في المقلب الآخر، لا بد من التطرق الى الأسباب الداخلية التي ساهمت في إضعاف البنية الاقتصادية الروسية، وعززت مستويات هشاشتها. الحديث عن الفساد المستشري وانعدام المساءلة ودور الأوليغارشية الاقتصادية المقربة من النظام في التحكم في العملية الاقتصادية أصبح من البديهيات، الا ان المهم هو التساؤلات التي تطرح في الصحافة العالمية عن أثر صفقة تمويل احدى الشركات النفطية الروسية، التي يعتقد أنها استطاعت أن تجمع أكثر من 625 مليار روبل من خلال اكتتابات قامت بها البنوك الحكومية، وجرت تغطيتها من البنك المركزي الروسي. هل استعمل جزء من هذه الأموال لسداد ديون بالدولار مستحقة على الشركة؟ السؤال المحوري: هل ساهمت هذه العملية في زيادة هشاشة الاقتصاد الروسي؟ وهل كان لها دور في تسعير حملة المضاربات ضد الروبل في السوق العالمية؟ الفشل في استثمار فائض العوائد النفطية في عملية تحسين انتاجية الاقتصاد غير النفطي، أمر أساسي في زيادة هشاشة الاقتصاد الروسي، ووضعه تحت رحمة المضاربات النفطية والنقدية. هذا ما تطرق اليه الرئيس بوتين في معرض حديثه عن اسباب الازمة، الا أن الأهم يبقى في وضع استراتيجية لتحسين الانتاجية وتنويع الاقتصاد وتحسين مستويات ونوعية التشغيل. العالم، كل العالم يحتاج الى كسر الأحادية التي تسيطر على ادارة شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الا أن التجربة أثبتت أن هذه العملية تحتاج الى ما هو أبعد من تكديس عوائد الريوع النفطية، ومن الترسانة العسكرية المتعاظمة.
بالعودة الى منطقتنا، لا بد لنا من التعلّم من الدرس الروسي وأخذ العبر. الاستراتيجيات الاقتصادية القائمة على إدمان تكديس الريوع النفطية واستعمالها لتأمين استمرار النظم الحاكمة ليست الخيار السليم. الهشاشة الاقتصادية التي تعانيها الدول العربية النفطية وغير النفطية لن تتغير، ما دمنا لم نعتمد خيارات تنموية تحدث تغييرا بنيويا في الاقتصاد العربي، وتدفع نحو النمو المدفوع بالتشغيل اللائق. لا بد من الانتباه الى أن التقاطعات السياسية القائمة اليوم، التي تحمي النموذج الاقتصادي العربي الحالي، غير مضمونة على المدى البعيد، إن لم نقل المتوسط. فهل نعتبر؟