يراقص «جنة، جنة، جنة» التاريخ اللبناني ويلبسه ثوباً نسائياً. يسائل حاضراً «مكبّل الملامح» ويهادن زمناً قد اكتفى عناء البحث عن أشيائه وأفراده الذين فُقدوا. ثلاث نساء على خشبة صغيرة، أمام خلفية سوداء تضيئها بخفوت مجموعة من النجوم. ستارة المسرح المخملية زرقاء، وعلى الأرض دفتر سجلات ضخم.
«في ويا ما في، بهالزمان المكتفي»، لازمةٌ تحيلنا بعض الشيء إلى لازمة حكايات الأطفال «كان يا مكان في قديم الزمان». هكذا يبدأ عرض «فرقة زقاق» الذي شاهدناه قبل أيام في «استوديو زقاق» (العدلية ــ بيروت). هو أشبه بقصيدة شعبية مستوحاة من الإرث الشفوي، مقفّاة، تلقيها ثلاث نساء تسرد بدينامية لافتة تفاصيل مجتمع مليء بالتناقضات. قصيدة تنتهي بفتح إحدى الممثلات دفتر السجلات، حيث تبدأ بسرد لائحة الأحداث التاريخية التي مر بها لبنان منذ الزلزال الكبير حتى إعلان العفو العام عن مجرمي الحرب الأهلية من «١٥٠٠٠ سنة». زلة الـ «١٥٠٠٠ عام» تليها مجموعة من الكلمات المتشرذمة (الكبة النية، حرب الإخوة...). لكن إذا ربطنا بعضها ببعض، فإنّها تشكل صوراً متضادة تفكّك الأسطورة السياحية التي بني عليها لبنان وتحيلنا إلى أجزاء مطمورة من الذاكرة الجماعية. كما لو أننا أمام أحداث متكرّرة تجابهها أسطورة لبنان، تلك التي نراها في البطاقات البريدية. تلك أيضاً تشكل جزءاً من ذاكرة جماعية نحتفظ بها على حساب الذاكرة التي نطمرها: الحرب، تداعياتها، العفو العام، وتاريخنا الخلافي. محاولة بناء تاريخ بديل عبر العمل على الذاكرة الجمعية وحكايات الناس ليست اهتماماً طارئاً على الفرقة اللبنانية. من يتابع مسيرتها، يرَ أنّ التاريخ البديل حاضر بشكل أو بآخر في عدد كبير من أعمال الفرقة، بدءاً من «خيط حرير»، وصولاً إلى «مشرح وطني». العرض الأخير وضع تاريخ الحرب الأهلية على طاولة التشريح وأشرك الجمهور في محاولة لتدوين تاريخ لبنان غير المدوّن، ممهداً بشكل كبير لإنجاز «جنة، جنة، جنة».
ضمن خطين متوازيين، يلعب «جنة، جنة، جنة» للمخرجين عمر أبي عازار وجنيد سري الدين على ثنائيتين: ثنائية «الولادة والموت» من جهة، وثنائية «مفقودي الحرب الأهلية والبلد المفقود» من جهة أخرى. في سياق العرض، تعرّف النساء الثلاث عن أنفسهن، وتخبرنا كل واحدة تفاصيل يوم ميلادها إبان الحرب الأهلية. تعرّف الممثلات عن أسمائهن الحقيقية (لميا أبي عازار، مايا زبيب، دانيا حمود)، ويذكرن تاريخ ميلادهن في ٢٠١٤. ليس ذلك بزلةٍ أخرى. إننا أمام لعبة دراماتورجية متعددة الدلالات تمتد طوال العرض. يلغى الخط الزمني الأفقي لتاريخنا، وتتحول الـ٢٠١٤ إلى الـ١٤ في إشارة إلى سنة ١٩١٤ أي تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى وتخبّط لبنان سياسياً. كما لو أننا جاهزون لتكرار التخبّط ذاته مراراً وتكراراً. كما لو أن كل ما مضى عالق في مكان ما خارج الزمن في انتظار التصالح معه جماعياً. تتقاطع تفاصيل ولادة النساء الثلاث في سياق العرض، مع مشاهد من الطفولة ومونولوجات موجهة إلى الجدة، وحكايات بعض مفقودي الحرب الأهلية. نساء ينتظرن رجالهن: زوجات، أخوات، أمهات. أم تتصل على الراديو بخبيرة أبراج لتعرف عن مستقبل ابنها المفقود، هي ما زالت تصر على إبقائه حياً وحاضراً: «رح يكمل جامعة؟».
توظيف القدرات الدراماتورجية والإخراجية لإبراز خطاب سياسي


لا شيء يمرّ مجاناً في هذا العرض المبني على نص متقن (هاشم عدنان). كل شيء مدروس وحمّال دلالات. رقم الهاتف: ٠١/٨٢٧٥٧٦ كناية عن تواريخ مفصلية في الحرب الأهلية. رمزية الجدة، قوتها ورفضها لمهنة التمثيل. موت الشاب المقرّب من دانيا الطفلة الذي يأتي على إيقاع خطوات الدبكة. حزن جد لميا حين ولدت لأنها فتاة. فرح مؤقت يليه حزن أكبر يتحول إلى احتفالية ايقاعية. تعريف الممثلات بأسمائهن ثم تقمص نساء عديدات. تلاعب بالذاكرة الشخصية للممثلات يؤجج توقاً للبحث عن وعي جماعي. كلها عناصر تحيلنا إلى تركيب صورة البلد المفقود، وتدعونا إلى ضرورة وضع حد لهذا الانفصام بين لبنان البطاقة البريدية والجزء المطمور من ذاكرته عبر تسليط الضوء على قضية الـ١٧٠٠٠ مفقود خلال الحرب الأهلية.
كل ذلك يمر بسلاسة عبر عاطفية وطرفة التفاصيل السردية، ومينيمالية السينوغرافيا وعبر ثلاث ممثلات وظفن حرفيتهن للإضاءة على الخطاب السياسي المتواري خلف تفاصيل العرض. ما يميز عمل «زقاق» هو قدرة تلك الفرقة على توظيف الـ«إستيتيك» والقدرات التمثيلية والدراماتورجية والإخراجية لمصلحة إبراز خطاب سياسي واضح وصريح لا يلبث أن يختفي خلف جماليات الفرجة. ينتهي العرض بمشهد أغنية «جنة، جنة، جنة»، وهو عبارة عن تسجيل صوتي لشاب يبعث رسالة إلى نساء يتضح أنهن مسافرات، ويحدثهن عن الأوضاع خلال الحرب ويغني الأغنية لأخيه على خلفية أصوات مجموعة من الميليشياويين الذين اقتحموا المنزل. بعد وضع الماضي خارج الزمن، أصبحت الممثلات أيضاً خارج المكان. تلك هي جنة لبنان التي يتحدثون عنها: ماضٍ خارج الزمان وحاضرٌ خارج المكان وكثير من الانتظار والترقب.




مشروعان في العام الجديد

بعد عام أمضته «فرقة زقاق» في البحث والعمل على موضوع الموت والخلود، تستقبل الفرقة اللبنانية العام الجديد بعرض «هو الذي رأى» الذي ينطلق عند الثامنة والنصف من مساء الخامس من كانون الثاني (نوفمبر) 2015 ويستمر حتى الثامن منه على خشبة «مسرح مونو» (مونو ــ بيروت). ويسبق «هو الذي رأى» عرض آخر قصير تحت عنوان «الموت يأتي من العيون» سيعرض عند السابعة والنصف خلال الفترة المذكورة. ويشكّل «هو الذي رأى» بحثاً مسرحيّاً حول موضوع الموت وأشكال السعي إلى الخلود في المجتمعات المعاصرة، مستنداً إلى ملحمة جلجامش.