«لم يتبق أمامنا خيارٌ آخر، إما أن يقتلونا أو نقتلهم، بأرواحنا أو أرواحهم، لم يتركوا لنا مجالاً لتصرفٍ آخر»، هذا ما قالته الأسطرُ القليلة التي وصفت طريقةَ التحول في أحداث الثمانينيات بين الإخوان المسلمين والدولة السورية في كتاب باتريك سيل عن حياة الرئيس حافظ الأسد بعنوان «الأسد، الصراع من أجل الشرق الأوسط». جاءت الخلاصة المؤلمة السابقة التي توصل إليها المنتسبون لحزب البعث الحاكم في سوريا وقتذاك في عراكهم العنيف مع موجات التكفير والاغتيال التي خضع لها كثير من الحزبيين في مواجهة كسر العظم وإسقاط الحكم في سوريا.
عندما توصل طرفا الصراع إلى تلك الخلاصة، أخذت المعركةُ صفة كسر العظم والقتال من دون رحمة ومن دون أي محرمات أو خطوط حمر، استخدمت فيها الاغتيالات والتفجيرات التي طاولت شخصيات الدولة الكبار، ولم تستثن الرئيس السوري السابق ذاته.
إنّ مطالعة القسم المعنون بالعدو الداخلي في الكتاب المذكور، يكاد يكون وصفاً دقيقاً للاستراتيجية التي انتهجها وينتهجها المنتسبون للإسلام السياسي في إسقاط الدولة السورية اليوم في تجربة معادة ومجترة، وإن بظروف ملائمة أشدَّ قسوةً، القراءةُ في تلك الصفحات المطوية تنيرُ ضوءاً ساطعاً على التراجيديا الراهنة بشخوصها وأدواتها المتحركة أمام أستار المسرح أو خلفه، نسلٌ واحدٌ من الأنساب القديمة وتدفقٌ مكرور للروايةِ ذاتها.
اختُتمت تلك المرحلةُ بانفجار كبير بالسيارات المفخخة عُرف بانفجار الأزبكية الشهير، وبعد مدة قصيرةٍ أُعلن انتصار الدولة السورية، واعتبارُ جماعة الإخوان المسلمين في سورية حزباً محظوراً، وسُنّ قانونٌ بالحكم بالإعدام لكل من يثبت انتماؤه له.
كثرت التكهنات والتحليلات السياسية الموصِّفة للصراع الجاري في سوريا لإسقاط السلطة والحكم في سياق ما سمي ثورات «الربيع العربي»، وإن اختلف في سلمية الثورة السورية عند بدايتها، وراح المعارضون يدعون السلمية والثورة لأجل مطالب شعبية في إسقاط الدكتاتورية والاستبداد والعمل على تحقيق الديمقراطية والعدالة والكرامة الاجتماعية، لكن أطراف الدولة السورية بسلطتها الحاكمة مع قطاع واسع من الشعب السوري يستشهدون بأعداد الرتباء والعسكريين والأمنيين الذين سقطوا ضحايا في الأشهر الأولى، ويكاد يكون عددهم مساوياً للمدنيين أو قد يزيد، سقطوا في التظاهرات السلمية للثورة السلمية في درعا وحمص وعلى الطرق الواصلة بين المدن السورية.
وقد استدل بعضُهم إلى أن المخطط المُعدَّ لسورية كان الحرب والصدام المسلح منذ البداية، فتورطت المعارضة أو استُخدم الطرف الثالث «المندس» لإشعال الساحات وسفك الدماء بحسب الخطوات الخفية المجدولة بين السطور في كتاب جين شارب في إسقاط النظم الديكتاتورية عبر الثورات الملونة.
كان تغيير العلم السوري مؤشراً على مخطط فرز الساحات بين الطرفين، وعلى الحرب المزمع إشعالها في سوريا. لم تُغير الأعلام والرايات إلّا في ساحات ليبيا وسوريا وهما وحدهما من اجتاحهما جنون الحروبُ والقتال.
لبست الثورة لبوس الحرب
وصارت خليلة لكل الغرباء وأصحاب الأوهام والمغامرات

نجح مشروع «الناتو» في ليبيا واُسقط حكمُ الزعيم القذافي، فشجعَ ذلك القائمين على ما دعي «بالثورة السورية» بالانخراط التام عبر نسخ المشروع بحذافيره ولصقه في سوريا، فاجتاحت العصابات المسلحة والميليشيات التي بدأت تتسمى بألقاب إسلامية، فتشكلت الكتائب والألوية والفيالق والجبهات، وصنع على عجلٍ «مجلس وطني» في اسطنبول مماثلٌ لليبي الذي أشرف على التعاون مع «الناتو» وتوابعه وأذياله في المنطقة.
لبست الثورةُ لبوسَ الحرب وكشفت عن ساقيها وفخذيها وظهرت كلَّ عوراتها، وصارت خليلةً لكل الغرباء وأصحاب الأوهام والأحلام والمغامرات.
فُتحت المواجهات على كلِّ الساحات، وضخّ الإعلام النفطي بروباغندا مضلِّلة شكّلت رواية مفبركة صعبة الاختراق، تمت بها شيطنة الدولة السورية بكل مؤسساتها وبشكل خاص الجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية (من هو العبقري الألمعي الذي يثور شاهراً سلاحه أو مبرراً استخدامه ضد الجيوش الوطنية الجامعة، ويضمن بقاء الأوطان سليمة موحدة إن تفتت فيها الجيوش أو حُلت، وهل نحن بحاجة إلى أدلةٍ على ذلك؟! ولماذا تخوض اليوم كلُّ الجيوش العربية المعتبرة بكل تنويعاتها - سواء تلك التي واجهت وعادت الثورات أو التي وقفت معها أو تلك التي وقفت على الحياد - حروباً مصيريةً لمنع التقسيم ولصدِّ الإرهاب).
بدأت الحدود السورية تتفلّت، وتتدفق منها أعداد كبيرة من المسلحين الغرباء العقائديين المضللِّين منهم أو المرتزقة. تشكلت لهم قواعد تجميع وتدريب ودعم مالي ولوجستي داخلية وخارجية. وصار الآن ممكناً أن ينضم الأفراد القادمون بجنسياتهم المتعددة العائدة لأكثر من ثمانين دولة لمجموعات مسلحةٍ أو مراكز تدريب لهم من دون أن يكون في هذه المجموعات أو داخل هذه المراكز سوري واحد، وصارت تطلق مصطلحات واسمة لهذه المجوعات كالمجموعة الشيشانية والتونسية والمجموعة المقاتلة الليبية وغيرها تمييزاً لها أن العنصر السوري فيها نادر أو غير موجود.
منذ فترة وجيزة ألقت القواتُ العراقية القبض على شخصين فقط تبقيا من مجموعة تعدادها 150 مقاتلاً أجنبياً كانوا في هجوم لداعش على الرضوانية، رُصِد الرتل و ضُرِب من الجو. ذكر الناجي السعودي أنه عبرَ من السعودية إلى الكويت ومنها إلى تركيا في طريق مألوف للمقاتلين الأجانب. المدرس السعودي كما زميله الشيشاني المقبوض عليه ذكرا أنهما وصلا الرقة، وخضعا لدورة تدريبية فقهية عسكرية مدتها ثلاثة أسابيع، كانت كلُّها من الغرباء والأجانب، لم يكن ثمة سوريون بينهم، ومن يطالع حالياً المشاهد القليلة الصادرة من المناطق التي تقع تحت سيطرة هذه المجموعات سواء في الرقة أو ريف دير الزور أو غيرها، يشاهد مناظر احتلال الغرباء للمواطنين السوريين، وجوهٌ طارئةٌ غريبةٌ على هذه البلد العتيقة وسكانها المخضرمين بعبق الحضارات المتعددة القديمة.
لا بد أن الحرب والصراعات التي تجرى على الأرض السورية قاسيةٌ، وستكون صعبةً في المستقبل إذ طالما كانت حربُ العصابات مقتلةَ للجيوش النظامية، والأدلة تكاد لاتُحصر في اندحار الجيوش النظامية في الحروب الاستنزافية الطويلة التي تشنها العصابات. حدث ذلك مع الجيش الأميركي في ثلاثة بلدان (فييتنام وأفغانستان والعراق)، وأصابت الجيش السوفياتي الهزيمة ذاتها في أفغانستان قبيل انسحابه وتفككه لاحقاً.
إن سقوط الجيوش النظامية في حرب العصابات تكاد تكون قاعدةً صحيحةً بلا شواذ، فما الذي يختلف في الحالة السورية؟
تصدّر وسائلُ الإعلام ووسائط التواصل الإعلامي والخبري الالكترونية كلَّ فترة مشاهد متصاعدة من التوحش والتطرف والإجرام غير المسبوق الذي يُمارس على عناصر من الجيش السوري، فبعد العبث بالأجساد والرؤوس والذبح بالسكاكين، صدّرت الصورُ الأخيرة طرقَ متوحشةً جديدةً في التعامل مع أسرى الجنود السوريين، حيث صفّي الجنود على خلفية طائفيةٍ بين أرجل الغوغاء في مدينة، طريقة شيطانية مبتكرة في القتل، تُسحل الأجساد بعدئذٍ في الشوارع.
كان الجيش السوري منذ بداية الحرب على سورية هدفاً أساسياً لهدِّ الكيان وتفتيته، شاعت الروايات التي تصفُ شهداء الجيش بأنهم يُصفون بأيدي زملائهم أو قادتهم لأنهم يرفضون الأوامر، وصارت مناقشةُ الانشقاق بشكل منطقي أمراً متعذراً، فقد بُولغ بهذه الظاهرة التي لم تكن إلا شكلاً طبيعياً عندما تتعرض الجيوش لمثل هذه الضغوط والضخ الإعلامي، لم تكن إلا ظاهرة فرار من المسؤولية وكان حجمها في الحدود المعتادة لمثل هذه الظروف التي مرت بها سوريا من حرب قاسية.
ما فاتَ المنظرين السياسيين الذين يكتبون بصعوبة انتصار الجيوش على العصابات أن الجيش في سورية ليس وافداً إلى ساحة المعركة الدائرة، وليس محتلاً لها أو مرتزقاً، بل هو يدافع عن أرض وطنه. والجيش السوري الممثل لوحدةِ الكيان السوري بأطيافه المختلفة هو الركيزة الأساسية التي تستبقي وحدة الأرض السورية وهو ضمانته الوحيدة، وقد أثبت في السنوات الفارطة من عمر الحرب على سوريا أنه قادر على إكمال مسيرة التضحية والفداء، وانه استطاع أن يمر بأصعب المراحل وأن يتجاوزها، وبات إكمال المشوار أقلَّ كلفة.
ازداد هذا الجيش في مشوار الدفاع عن سوريا مراناً وتدريباً عملياً، واكتسب الخبرة اللازمة في حرب العصابات. وأضيفت لعديده الكثير من الفصائل الشعبية والحزبية الداعمة (مثل الجيش الوطني وكتائب الأحزاب وغيرها) التي عانت من حالات الشيطنة والكره والاستعداء الشديد من قبل المسلحين.
إن الطبيعة المحتدمة والمحمومة والمجنونة في الصراع من اجل السيطرة على سوريا أو استنزافها وتدميرها، والتي تشابه بخلاصتها الراهنة الخلاصة التي وصل إليها الحزبيون القوميون في الثمانينيات، يصل الجيش السوري بعناصره اليوم لها، مع فارق وحيد أن الطرف المقابل لهم والذي لا يرحمهم ويمثل بجثثهم هو طرفٌ لا يمثل السوريين. طرفٌ من الغرباء والمرتزقة والمضللين يشكلون احتلالاً واقعياً على الأرض السورية التي كانت لفترات طويلة عريناً مُصاناً آمناً مطمئناً مُحرّماً على القدم الغريبة.
مع هذا القدر المتعاظم من الحقد والتوحش والتكفير وانعدام الرحمة لم يتبق للمدافعين عن سوريا - السوريين منذ الأزل - خياراً آخر، مهما كانت الأكلاف باهظة والتضحيات مؤلمة، إلا أن يملأ قلوبهم الغضب والرغبة الوحيدة بالانتصار والذود عن هذه البلاد التي اعتادت على حروب الغرباء، فيمرقون بذلِّهم وبربريتهم وقلوبهم السوداء بلا طيف أو أثر. وتبقى لهذه الأرض المطّهرة العتيقة قدسيتها وجلالها وشرفها معجونةً بدماء أولادها المخلصين الشجعان، وتورد فوقَ ثراها أزهار شقائق النعمان وتنطلق في أجوائها نسماتُ زهر الياسمين.
اليوم تتغيرُ المعادلات وتبدأ التوازنات الجديدة للكون، وتتولد الأقطاب المتعاكسة، وتحتمل سوريا الاضطراب العظيم والفوضى العمياء، وتدفع ثمنَ معمودية الحديد والنار دفاعاً عن دورها الحضاري الموغل عميقاً في التاريخ البشري. وها هي وقد دفعت الثمنَ من دماء أبنائها المخلصين الشرفاء، وهاهو الفجرُ الآتي يلوح في الأفق، سيبقى في هذا الشرق الحضاري من يرفعُ إصبعه معانداً معترضاً على سياسات «نظام العالم الجديد»، ويقول لسلاطين الرجل الأبيض ووكلائهم الحصريين وخدامهم وعملائهم الممتلئين بروائح النفط والغاز وعوائدها: لن تمروا.
بخلاصة مفيدة هذا جيش وطني متمرس يخوض حربه المقدسة دفاعاً عن أرضه وأرض أجداده أمام فلول من الغرباء والمرتزقة والمضللين، وليس أمامه إلا أن يحقق النصر واستثناء القاعدة.
فهل أدرك الغرباء سرّ الفولاذ الدمشقي؟ وهل فهموا معادلات فيزياء التاريخ في بلادنا، وهل اشتموا رائحةً لمن آثرَ الرحيل والغياب عن هذه الأرض المشرفة المطهرة؟ إنه الاستثناء السوري، استثناء الأرض والإنسان.
* كاتب سوري