إذا كان صحيحاً قول ابن خلدون عن العرب إنهم لا يطربون إلا لكل ما هو مستغرَب، فالأكيد أن بعض اللبنانيين أكثر من يصح فيهم هذا القول. بدليل كل الأوهام والتخيلات المفروزة يومياً في موضوع انتخاب رئيس جديد للجمهورية. منذ نحو سنة بالتمام، بدأت محاولة لبنانية ــــ لبنانية لإنجاز الاستحقاق الذي كان مرتقباً في أيار الماضي. لكن المسار توقف، لأسباب سعودية معروفة. وبين هلالين لازمين، قد يكون من المفيد جداً لوفد «تيار المستقبل» إلى حوار عين التينة، قراءة كتاب أحد محاوريهم، النائب حسن فضل الله في هذا المجال! والأمر مفهوم في هذا السياق.
فهي الأنتروبولوجيا نفسها تتحدث عن «شخصية قاعدية» للجماعات كما للفرد. فمثلما يتأثر الإنسان بظروف ولادته، حتى تصير مكوّناً لشخصيته طيلة حياته، كذلك الجماعات والمؤسسات. والوطن والدولة نموذج عن هذه. ولبنان الدولة والوطن، وُلد بأيدي قابلات قانونيات دوليات، اسمهن القناصل. ومنذ ذلك التاريخ، ورغم مرور قرن ونصف، واستقلالين، وحروب عدة، وعشرات آلاف القتلى، لا يزال أهل السياسة عندنا مسكونين مهجوسين بذهنية القناصل، بحكمهم وتحكمهم وهوسهم المَرَضي بأن شعرة لا تسقط من رأس لبنان أو لبناني، إلا بعلم أصحاب السعادة وأمرهم.
منذ 215 يوماً لبنان بلا رئيس. لأن اتفاقاً لبنانياً ــــ لبنانياً على ذلك لم يتم. صحيح أن ظروفاً سابقة كانت ترجح عوامل خارجية في فرض الرئيس. منذ عشيقة دي مارتيل التي كانت تأتي برؤساء الانتداب الفرنسي، إلى العشق السوري ــــ القطري العذري العابر، الذي جاءنا بآخر رؤساء الانتداب الأممي سنة 2008. لكن معادلات أخرى استجدّت: سوريا منهمكة في حربها. ما يسمى أنظمة عربية غارقة بين أحقادها والتخلف وانسداد سبل الوصول إلى بيروت. أوروبا باتت بلا صوت حي أو صاخب، كما قال عنها البابا فرنسيس. روسيا مهتمة، غير أنها لم تمتلك بعد وسائل التأثير والحسم. واشنطن لا تزال فاعلة، لكنها غير مهتمة، أو على الأقل لم تجد مصلحة لها في الاستثمار السياسي في ملف الاستحقاق اللبناني، بما يؤمّن لها معادلة «كلفة – عائد» إيجابية لمصالحها. فهي تقدر على فرض رئيس الآن. لكن ذلك يفترض أن تضغط على الرياض. ولكي تضغط على أوليغارشيي تلك العائلة، قد يكون عليها في المقابل أن تعطيهم ثمناً في سوريا. لكنها في سوريا غير مضطرة لتغيير أي حرف في مستنقع الاستنزاف الشامل القائم. وبالتالي بين حساب «انخراط» أميركي في إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وبين حساب ترك الأمور مضبوطة بهذا الشكل المريح والمربح، اختارت واشنطن بلا تردد الاحتمال الثاني.
لم يبق للبنانيين من أجل إنجاز رئاستهم إلا اللبنانيين أنفسهم. لكن من يجعلهم يصدّقون ذلك. من يقدر على إقناعهم بأن كل الخارج بين العاجز والمتنصل وغير المعني. ويستمر الردح في المواقف والتحليلات: يذهب موفد فرنسي إلى طهران، من أجل صرف استعراض خارجي في سوق استطلاعات الرأي الفرنسية الداخليىة لا غير، فتطلع على بيروت نبوءات «صفقة بين باريس وطهران». يأتي لاريجاني ليعلن أن الرئاسة شأن داخلي، فتعلو الهمسات بأن نفيه تأكيد لحصول الطبخة! على الخط الروسي جاء بوغدانوف مستمعاً رئاسياً لا غير. لم يقل كلمة واحدة. استمع حول الاستحقاق إلى ميشال عون مطوّلاً. قبل أن يعلق بكلمة: معك حق مئة في المئة. فحمل منه كتبه ورسائله حول الطائف والاستحقاق ورؤية حماية الاثنين، وذهب. سأل حسن نصرالله عن الموضوع، فقال له إنه في الرابية.ارتاح مجدداً وسافر. ورغم ذلك، خرجت المخيّلات العجيبة: إنهم يمهدون لشيء ما.
في القاهرة حاول أكثر من زائر ووسيط. فسمعوا بوضوح أن زمن عمر سليمان قد ولّى. أفهموا أن محاولة جس نبض حصلت بين القاهرة وكل من باريس وطهران، فجاء الجواب كما كلام حسين خليل الصريح. في الفاتيكان، استقالة كاملة من الموضوع الرئاسي وحتى اللبناني. أسبابه معقدة وحساسة. أقلها تباين في وجهات النظر ــــ بدأ يلامس القطيعة ــــ بين القاصد الرسولي وبكركي من جهة، كما بين مرجعية القاصد في أمانة سر الدولة في روما، وبين مرجعية بكركي هناك لدى مجمع الكنائس الشرقية. هذا قبل أن يحصل التغيير الآن في الكوريا الرومانية، بما عمّق شلل الفاتيكان لبنانياً أكثر فأكثر ... ولا مزيد من التفاصيل الآن.
وحده دايفيد هايل يصارح اللبنانيين هذه الأيام. يقول لهم إن اللعبة داخلية. يسألهم عن مقترحات، عن أي جديد قد يحرك المأزق. لأنهم وحدهم من يقدر على ذلك. فلا يصدقونه. بل يستمرون في حشوه بالولائم التي يقتصد هو فيها حتى الحمية، بدلاً من الأفكار التي يقتصدون هم فيها حتى الإفلاس.
قبل أيام، يبدو أن ثمة من اقتنع بين بكركي ومعراب بأن الوضع هو ما هو عليه. وبأنه لا مناص من المبادرة ذاتياً، ومسيحياً أولاً. هكذا صارت زيارة جعجع إلى الرابية، على قاب سؤالين وبضعة أجوبة تمهيدية. وصارت دعوة بكركي إلى ميشال عون لحضور قداس الميلاد، في غياب رئيس للجمهورية، باباً للحوار الداخلي، ومدخلاً حتمياً لحل لبناني بامتياز. اليوم عون في بكركي، في صورة رئيس، ولو من دون بروتوكولات رئاسة. وبعد أيام ــــ قد تطول بضعة أيام أخرى ــــ جعجع في الرابية في صورة الشريك الحليف المتصالح مع ربع قرن من الفوضى المدمرة. إنها بداية الحل، إلا إذا استفاقت مجدداً ذهنية القناصل، أو مؤامراتهم.