يدعو الرئيس بشار الأسد إلى تفعيل الحوار الحر داخل حزب البعث، وبين البعثيين والقوى الوطنية الأخرى («الأخبار» 3 كانون الثاني 2015). يلفت نظره منها التيارات الجديدة، الموالية للدولة الوطنية السورية، من خارج البعث، والحزب السوري القومي الاجتماعي.
التيارات غير البعثية التي خاضت، وتخوض، وبأشكال عديدة، معارك ضد الإرهاب والتكفير والتدخل الأجنبي، تحفزها الروح الوطنية الخاصة بالجمهورية العربية السورية، وتنخرط في الدفاع عن العلمانية والتعددية الدينية والثقافية والسلم الأهلي والتقدم؛ الاتجاه الأكبر بين هذه التيارات ـ كما لاحظنا ونلاحظ في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي واللقاءات الشخصية ـ هو اتجاه وطني محلي (باللغة البعثية: قُطري)، نافر من البعث وناقد للسلطة وآلياتها، لكنه ينظر إلى الرئيس الأسد كزعيم للبلد ورمز للوطنية السورية، ويقف وراء الجيش العربي السوري.
والتيارات الوطنية الجديدة ـ غير المتشكلة في أحزاب ـ تعبّر عن نفسها في القتال والمبادرات الاجتماعية والثقافية والتطوعية وفي الإعلام البديل. وقد فرضت نفسها، وتمكنت من بلورة ثقافة ولغة وشبكات خاصة بها. وفي أوساطها، كما أرى، تتشكل حركة وطنية اجتماعية سيكون لها حضور مستقبلي؛ فجلّها من الشبان والصبايا المنخرطين في دينامية لا يمكن استيعابها بعقلية الجيل السابق ووسائله.
ظاهرة التيارات الوطنية الشبابية الجديدة عرفتها روسيا البوتينية؛ عشرات آلاف الشبان والصبايا، ممن لا ينتمون إلى الحزب الحاكم أو أي حزب آخر، ويتمتعون بالحيوية والمواهب وحس المبادرة، تجمعهم الوطنية الروسية والولاء للرئيس فلاديمير بوتين ودعم الجيش الأحمر، وفي ما عدا ذلك، فإنهم متعدّدو الأفكار والرؤى.
قرأ الرئيس الروسي هذه الظاهرة، واقترح لاستيعابها إنشاء تنظيم مفتوح غير حزبي هو «الجبهة الشعبية لعموم روسيا»، وأعطاه ثلاث مهمات هي الرقابة الشعبية، ومحاربة الفساد، والمشاركة في العملية التنموية بالاقتراحات والمتابعة وتحفيز المشاريع المتوسطة والصغيرة. يحضر الرئيس بنفسه مؤتمرات الجبهة، ويناقش مع شبابها كل الملفات المطروحة على جدول الأعمال. الجبهة تحولت إلى قوة اجتماعية تنموية جبارة، وإلى ذراع سياسية فاعلة للكرملن.
بالعودة إلى سوريا، ما يهمنا، في النقاش الحالي، هو مسألة الهوية. فالجديد النوعي في الحركة الشبابية السورية ـ غير البعثية وغير الحزبية ـ المؤيدة للدولة، يكمن في فضّ الالتباس حول الهوية الوطنية: سوريا سوريّة في إطار حدود الجمهورية القائمة.
لكن الهوية السورية، بالنسبة إلى السوريين القوميين، تتعدى حدود الجمهورية إلى سوريا الطبيعية، وبالدرجة الثانية العراق، أي الهلال الخصيب. نحن، هنا، بإزاء هوية قومية، لكنها قومية سوراقية، لا تنفي العلاقة مع العالم العربي، ولكنها لا تتخذ القومية العربية عقيدةً. وقد شهدنا، في سياق الحرب الوطنية التي تخوضها سوريا، انتشاراً أوسع للقومية السورية، وصحوة جديدة لحزب أنطون سعادة. والرئيس الأسد يلاحظ ذلك. ففي حديثه عن الأحزاب في سوريا، توقف، فقط، عند الحزب السوري القومي الاجتماعي، ورأى أن له «وجوداً»، لكنه أكّد، في المقابل، أن حزب البعث، وحده، مَن يستطيع أن يملأ مساحات لا يصلها السوريون القوميون، جغرافياً وفكرياً؛ فحزب سعادة، بقوميته السورية وعلمانيته الجذرية، غير قادر على التعامل مع العربي، ومع المسلم المعتدل. وهذا صحيح، لكنه، بخلاف البعث، أقدر على التعامل مع الاثنيات السورية العراقية ـ وهي ليست كلها عربية ولا مسلمة. كذلك فإنه أصبح ينبغي علينا، بعدما انتقل البعثيون العراقيون إلى صفوف التكفيريين، أن نلاحظ أن الإصرار على العلاقة مع الإسلام المعتدل، يقود، في النهاية، إلى الطائفية والتطرّف.
يدفع الرئيس باتجاه تطوير حزب البعث، ولكن من دون إعادة النظر في الهوية؛ الهوية عربية. وهذا مفهوم بالمعنى الأيديولوجي، لكنه، في السياسة، يكرر مأزق الهوية في الجمهورية العربية السورية. وهذا المأزق، في رأيي، هو المسؤول الرئيسي عن الأزمة التي تعيشها البلاد، والتي تفجرت في 2011؛ لقد اختارت الدولة السورية، القومية العربية، كهوية وطنية؛ فالسوري هو «عربي سوري». والمأزق التاريخي، هنا، أن الهوية القومية هي فوق وطنية، ما قاد السوريين إلى التفتت الهوياتي؛ فالأكراد وسواهم من الأقوام غير العربية لا يجدون أنفسهم في تلك الهوية العربية. ومع تماهي العروبة بالإسلام، يكفي صعود الطائفية لكي يرى سنّة سوريون أنهم يرتبطون بمصر والخليج، بأكثر مما يرتبطون بمواطنيهم العلويين والشيعة والمسيحيين إلخ، بل ولا يجد «الثوّار» السوريون غضاضة في استيراد المقاتلين العرب والأجانب على أساس طائفي. وبينما يتطلع بعض الشيعة صوب إيران، يحزم بعض المسيحيين حقائبهم لدى نشوء المخاطر. هكذا، لم تعد العروبة أيديولوجيا لاحمة في سوريا، بل أصبحت سياقاً للتفتت الوطني. وللحديث صلة.