«لا وسط بيروت الذي اختلسه المضاربون ولا القصور الطالعة من كل ميل ولا الجادّات المستحدثة يمكن أن تعيد (للبنان) الماضي وتضيء المستقبل».هنري إده

تبث الـ BBC حالياً لقطات من حول العالم تحت عنوان «مدينتي». يتحدث فيها أشخاص عن مدنهم، كستوكهولم وبرشلونة والريو... أكثر ما يقولون يتعلق بديناميكية، وثقافة وأصرحة مدنهم وعلاقة الإنسان بها. اختارت الـ BBC أن تظهر أن بيروت تعود كمدينة «فخمة وفاتنة»(1) ليس بالمعنى الجمالي، بل ذلك الافتتان البراق المصطنع.

يعكس هذا الوصف التحول الذي تشهده حالياً مدينة بيروت، الذي يتمثل في استكمال اجتياح الرأسمال الريعي للمدينة وأحيائها وشوارعها، وهو اجتياح لم يبدأ مع «سوليدير» في وسط المدينة، إذ إن التطوير العقاري الكبير الحجم بدأ خلال الحرب الأهلية في الثمانينيات من القرن الماضي بمساعدة الرأسمال العربي. إلا أن «سوليدير» جسدت المفاعيل المدينية «للمال إن حكم»*، وأصبح هذا النموذج مركز الجذب لحركة التطوير العقاري في لبنان، يجمع بين الرأسمال الكبير والأشكال المعمارية الفخمة، الطاردة لأبناء المدينة الأصليين ولا سيما أبناء الطبقات المتوسطة والعاملة، والمدمرة لفضاءات التواصل الاجتماعي. المعماري الراحل هنري إده (الذي لعب دوراً رئيساً في التخطيط لإعادة إعمار وسط بيروت، قبل أن يستقيل من مهمته احتجاجاً على ما اعتبره انحرافات عن الهدف)، يذكر في كتابه (مذكراته) كيف أن إنشاء «سوليدير» وسياساتها أخلّت بالتصور الأصلي لإعادة إعمار وسط مدينة بيروت، الذي كان يتضمن (برأيه) تطويراً عقارياً مع الحفاظ عليه كمكان للعيش والتفاعل الاجتماعي، واحترام معالمه الثقافية والتاريخية، بالإضافة الى تجديد الأسواق القديمة في موقعها.
للقائلين بأنه لم يكن هناك خيار آخر، فإن تجربة إعادة بناء وارسو بعد الحرب العالمية الثانية برهنت على أمرين: أولاً، إن إعادة البناء يمكن أن تتم بدون سيطرة الرأسمال الريعي أو أي رأسمال آخر. ثانياً، إن المدن المدمرة وأحياءها التاريخية والحضارية يُمكن إعادة بنائها، كما كانت بواسطة أفكار أبنائها وجهودهم وسواعدهم. حاول هنري إده (حسبما قال في كتابه) إقناع رفيق الحريري بشيء من هذا القبيل، كتب: «شددت أخيراً على ضرورة إتاحة الفرصة لأكبر عدد من اللبنانيين كي يعيدوا بأنفسهم بناء مدينتهم بناءً يجسد تقاليدهم وآمالهم ويجعل المدينة تنتسب إليهم». هذا ما فعله الشيوعيون البولونيون عندما استجابوا لرغبات أبناء مدينة وارسو في إعادة بناء المركز التاريخي لمدينتهم، وذلك على الرغم من الأفكار المعمارية للشيوعيين المغايرة في تلك الفترة.
يأتي مشروع قانون الإيجارات الجديد، الصادر أخيراً عن مجلس النواب، ليستكمل ويواكب الموجة الجديدة من تمدد الرأسمال الريعي الى أحياء بيروت، الذي تكثّف منذ بداية فورة المضاربات العقارية الأخيرة في عام 2007. بهذا يتم وضع اللبنانيين أمام خيارين: إما التملك أو الإيجار ضمن قانون 1992 الذي لا يؤمن أي ضمانات لديمومة السكن، إذ يحدد مدة الإيجار بثلاث سنوات. عدم اليقين هذا يدفع أكثر اللبنانيين الى السعي للتملك، وأصبحت ثقافة (أو حتى هوس) التملك تسيطر على عقول اللبنانيين، متجاوزة حتى «الحلم الأميركي» «ومجتمع الملكية» الذي نظّر له جورج بوش الابن. هذا الاندفاع للتملك قد يكون في ظاهره صحياً، إن على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع حيث تسود الديموقراطية الرأسمالية من خلال ملكية الأصول من قبل جميع قطاعات الشعب، إلا أن اصطدامه بطبيعة النظام الرأسمالي يجعل منه مفجراً للأزمات المالية ويؤدي الى إعادة تشكيل المجال الجغرافي للطبقات. هذا التوجه كان من الأسباب الرئيسة للأزمة المالية العالمية في 2008، إذ تفاعل مع الأسواق المالية وابتكاراتها في الولايات المتحدة ومع الدفع نحو الاستهلاك بعد أحداث أيلول 2001. أدّى ذلك الى تحول مجتمع الملكية المزعوم الى مجتمع المضاربة والاستهلاك، وظن الأميركيون أنهم وجدوا الكأس المقدسة للرأسمالية، وأنهم يستطيعون أن ينعموا بالاستهلاك وملكية المنازل والأسهم من دون نهاية. لكن الانهيار أتى سريعاً وأدى الى «أقل ملكية»، كما تنبأ وزير العمل الأميركي السابق روبرت رايش في عام 2004 وسمى باراك أوباما مجتمع الملكية (ownership society) بمعنى أنك متروك وحدك (you are on you own).
بالعودة الى لبنان، سأتطرق في مقال لاحق إلى التأثيرات على هشاشة الوضع المالي، ولكن ضمن البنية الاقتصادية والنموذج الاقتصادي اللبناني، فإن قانون الإيجارات الجديد، في ظل الارتفاع الكبير لأسعار الأراضي في بيروت (وفي ظل اقتصاد مزدوج، أي وجود خزان من المشترين المغتربين والعاملين في الخارج والأجانب، بالإضافة الى الطبقة الثرية الداخلية)، وفي ظل انخفاض مستوى الأجور والمداخيل للطبقات المتوسطة والعاملة في الداخل نسبة الى أسعار الشقق، سيؤدي الى تحويل بيروت فعلاً الى مدينة فخمة متشكّلة (بشكل أساسي) من أحياء ستسكن غالبيتها طبقات غنية محلية ومغتربة وفئات من العاملين في الخارج والأجانب، ومخترقة من أحياء رثة تقطنها فئات مهمشة اجتماعياً، ولكنها محمية من الأحزاب الطائفية. باختصار، سيستكمل قانون الإيجارات الجديد طرد غالبية الطبقات المتوسطة والعاملة الى ضواحي المدينة لننضمّ الى الذين أخرجوا سابقاً.
لا يأخذ قانون الإيجارات الجديد بالاعتبار أن الأجراء والمُدخرين لم يتم التعويض عليهم عندما خسروا القيمة الحقيقية لأجورهم ومدخراتهم في موجات التضخم في الثمانينيات، بل استمر تجميد الأجور لأكثر من 12 عاماً منذ عام 1996، ما أدى الى انخفاض حصة الأجور من الدخل الوطني الى نحو 25% بعدما كانت قبل الحرب نحو 50%. لماذا تعاد الملكية الى المالكين القدامى ولا تعاد حصة الأجور الى سابق عهدها، أو يُعاد للمدخرين ما خسروه في تلك الفترة (للبعض كان ذلك بمثابة ضربة قاضية لم يتعافوا منها). إن هذه التحولات تؤكد ما قاله هنري إده: «مع اختيار النماذج الاقتصادية القائمة على الاستغلال والربح وقدرة المال الكلية (...) قد يتحول لبنان (....) جنّة للأغنياء وجحيماً للفقراء». نضيف إنه جحيم للطبقة المتوسطة ولعمال وموظفي لبنان الذين عليهم أن يستعيدوا موقعهم في الاقتصاد، وبالتالي في جغرافيا مدينتهم التي قاتلوا من أجلها ولن يسلّموها من أجل حفنة من الدولارات.

* عنوان كتاب المهندس المعمار هنري إدّه «المال... إن حكم ــ جذور مهددة بالزوال» الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
(1) علماً بأن المعمارية منى حلاق استخدمت ذلك في الشريط الأصلي في سياق نقدها لإعادة الإعمار المحققة.