ترك انهيار أسعار النفط أثراً واسعاً في اقتصاد لبنان. فمن جهة، تقلصّت فاتورة الاستهلاك المحلي للمشتقات النفطية، ومن جهة ثانية يتوقع أن تنخفض تحويلات المغتربين العاملين في بلدان تضع موازناتها على أساس أسعار النفط. لأي كفّة سيميل الميزان؟ هل الأثر الايجابي سيطغى على السلبي؟ ام العكس؟ ولا سيما في ظل الازمة السورية التي ترتب مزيداً من الأعباء على لبنان. سؤال يتصدّر كل الاهتمامات التي تجمع على أن التحويلات (المصرّح عنها) تقدّر بنحو 7.7 مليارات دولار سنوياً، وهي شريان حيوي وضروري لاستدامة النظام القائم مالياً ونقدياً واقتصادياً، لكنه يترافق مع استنتاجات أولية عن انخفاض هائل في الفاتورة النفطية يقدّر بنحو ملياري دولار إضافة إلى انعكاسات مشجّعة اقتصادياً ومالياً ونقدياً.
توفير بالجملة

هكذا يبدو المشهد في لبنان في مطلع عام 2015. فقد ترك انخفاض أسعار النفط العالمية ارتياحاً في السوق المحليّة، وخلق فرصة للتعويض عن الخسائر التي أصابت مداخيل الأسر اللبنانية والتي ضاعفت أكلاف الإنتاج في المصانع وأثقلت السياسات النقدية بأعباء «تخزين» العملة الخضراء. سيحلّ المشهد الجديد بعد أربع سنوات من تسجيل الفاتورة النفطية معدلات مرتفعة تتراوح بين 13% و16.3% من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أنه بعد انخفاض سعر برميل النفط بنسبة 54% منذ حزيران 2014 إلى اليوم، فإن حصّة الفاتورة النفطية من الناتج المحلي الإجمالي انخفضت عام 2014 إلى 8.4% ويقدّر أنها ستهوي إلى 5.5% عام 2015 (على افتراض أن معدل نمو الناتج 2% وأن الأسعار استقرت عند 50 دولاراً للبرميل).
ومهما تعدّدت الروايات عن خلفيات انهيار الأسعار، سواء وضع في سياق حرب نفطية بين أميركا وحلفائها الخليجيين في مواجهة روسيا وإيران، أو كان السبب يعود إلى وفرة في مخزون المنتجين والمستهلكين المكوّن بفعل ركود الاقتصاد العالمي... كل هذه التحليلات تصبّ في لبنان في خانة المعطى الاساسي، اي ان الفاتورة النفطية ستتقلص بقيمة ملياري دولار عام 2015 بعدما انخفضت بقيمة 1.1 مليار دولار عام 2014.
تكشف التفاصيل أن المعدل الوسطي لأسعار المشتقات النفطية التي استوردها لبنان في النصف الأول من عام 2014، أي قبل انهيار الأسعار، بلغت 900 دولار للطن الواحد، لكنها انخفضت إلى 450 دولاراً اليوم، وإذا قورنت هذه الأسعار مع كميات المشتقات المستوردة عام 2013 والتي بلغت 5500 طن، فإن قيمة الفاتورة الإجمالية ستبلغ 3.7 مليار دولار، مقارنة بـ5.5 مليارات دولار في عام 2013 و5.8 مليارات دولار عام 2012.
اثر انخفاض التحويلات سيكون أقل بكثير من المفاعيل الايجابية على الفاتورة النفطية

وعلى هذا الأساس ستنخفض كلفة استيراد الفيول والمازوت لزوم استخدام مؤسسة كهرباء لبنان بما قيمته 660 مليون دولار بعدما وفّر انخفاض الأسعار مبلغ 122 دولاراً لطن الفيول و132 دولاراً لطن المازوت.
بحسب الوزير السابق شربل نحاس، فإنه عندما «ترتفع أسعار النفط يرتفع عجز المال العام بسبب عجز الكهرباء، لكن عندما تنخفض الأسعار يتراجع عجز الكهرباء على حساب المال العام وينخفض حجم استيراد المشتقات النفطية... وتلقائياً سنشهد انخفاضاً في كلفة المعيشة على المستهلك. سيكون لهذا التراجع وقع إيجابي».


تحويلات «ذهبية»

المشككون بالنتيجة الايجابية الصافية يشيرون إلى أن انخفاض أسعار النفط سينعكس سلباً على تحويلات المغتربين. فعلى مدى العقود الماضية كان لبنان عبارة عن مصنع لليد العاملة التي تهاجر وتحوّل قسماً من مداخيلها إلى أسرها. أنتجت هذه القاعدة عام 2014، وفق تقديرات البنك الدولي، تحويلات (مصرّح عنها) بقيمة 7.67 مليار دولار مقارنة بـ7.55 مليار دولار عام 2013 و6.92 مليار دولار عام 2012. أهمية هذه المبالغ أنها تمثّل نحو 16% من الناتج المحلي في هذه السنوات، وهي توازي 35% من متوسط واردات السنوات الثلاث المذكورة، فضلاً عن كونها أهمّ مصدر للعملة الأجنبية التي يحتاجها لبنان لتمويل الواردات ولتغطية حاجات الأسر ولتقليص عجز ميزان المدفوعات. علماً أن التقديرات الفعلية لتحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج قد تزيد في ضوء المعلومات الأكيدة عن وجود تحويلات مهمّة تدخل لبنان عبر قنوات غير نظامية، ولا سيما من افريقيا.
بحسب تصريحات سابقة لرئيس جمعية مصارف لبنان فرانسوا باسيل، فإن 60% من التحويلات مصدرها دول الخليج التي تبني موازناتها على أساس أسعار النفط، وبالتالي أصبح الربط تلقائياً بين مجمل قيمة التحويلات وبين أسعار النفط. لذلك يتوقع المتابعون أن تتقلّص قيمة التحويلات بدلاً من أن تنمو، مستندين إلى انخفاض أسعار النفط كمؤشّر أساس على تراجع حركة إنفاق الحكومات الخليجية على الاستثمارات الداخلية، وهو ما ينعكس سلباً على الاستثمارات الوافدة ويؤثّر سلباً في مستويات التشغيل والدخل الفردي. هذا التراجع يفسّر التوقعات التي تشير إلى تراجع الإنفاق الحكومي الخليجي، فغالبية هذه الحكومات بنت موازناتها على أساس سعر لا يقل عن 60 دولاراً لبرميل النفط، أي إنها ستقع في عجز مالي قد يدفعها إلى استخدام الأموال في صناديق الاحتياط التي أنشأتها، وبالتالي لن تتوسع في الإنفاق.
في المقابل، يشكّك بعض المصرفيين بهذه التوقعات. يعتبرون أن قياس تدني الاستثمارات وانعكاسه على الاستثمارات وعلى مداخيل اللبنانيين العاملين في تلك البلدان ليس دقيقاً، لأن هذه الدول لن توقف مشاريعها فجأة، وهي لن تقع في ضائقة مالية لأن لديها احتياطات هائلة تساعدها في تخطي صعوبات تمتدّ على سنة أو سنتين «فإذا لم يستمرّ هذا التراجع في الأسعار لفترة طويلة تصل إلى خمس سنوات لن تكون هناك تداعيات سلبية على تحويلات المغتربين» يقول احد المصرفيين.
يشير نحاس إلى أنه مهما تدنّت تحويلات المغتربين بفعل انخفاض أسعار النفط «فلن يكون الميزان عاطلاً على لبنان لأن مفعول تراجع الأسعار على التحويلات هو أقل بكثير من مفعوله على الفاتورة النفطية. صحيح أن المفاعيل تصيب دخول الدولارات من الخارج إلا أنه في الجهة الثانية سينخفض الطلب على الدولار محلياً وبالتالي فإن الأمر لن يؤثّر في احتياط مصرف لبنان، لا بل سيتراجع دفع المبالغ المقومة بالدولار. الصورة العامة لهذا المشهد فيها سلبي وإيجابي لكن النتيجة الإيجابة تطغى على الصورة العامة».

انكفاء المال السياسي

ومن نتائج المشهد، أن انخفاض أسعار النفط سينعكس إيجاباً على عجز ميزان المدفوعات الذي يمثّل صافي الأموال الذي تدفق من لبنان وإليه سواء كان استثمارات أو تحويلات أو ناجماً عن حركة التجارة مع الخارج... لكن في رأي مصرفي متابع فإن هذه الأسعار المتدنية ستقلّص من تدفقات المال السياسي إلى لبنان رغم أنها ستمثّل فرصة كبيرة للتخفيف من كلفة الاقتصاد وخصوصاً كلفة الصناعة. بحسب عضو مجلس إدارة جمعية الصناعيين منير البساط، سيشهد بعض الصناعات تراجعاً فورياً في أكلافه نظراً إلى أن المشتقات النفطية تمثّل مكوّناً أساسياً بين عناصر كلفته، وخصوصاً تلك المصانع التي تعتمد على الطاقة المكثفة في عملية إنتاجها وتمثّل المشتقات النفطية ما لا يقل عن 20% من كلفتها وقد تصل إلى 40%.
غير أنه في المقابل، هناك صناعات لن تستفيد سريعاً وبشكل كبير من انخفاض الأسعار رغم أن دورة الانخفاض ستلحقها بصورة غير مباشرة «فالمشتقات النفطية لا تمثّل أكثر من 10% من كلفة إنتاج الصناعات الغذائية لكن الأثر الإيجابي سيكون موجوداً خلال فترة زمنية غير بعيدة».