مرّت أيّام على مقالة «النهار» العنصريّة التي تناولت ما يفترض أنّه «الاجتياح السوري» لشارع الحمرا البيروتي. المقالة التي تحمل توقيع متخرّج جديد من كليّة الاعلام، أثارت حملة استنكار عارمة. قرّاء كثر طالبوا الجريدة اللبنانيّة العريقة بالاعتذار. لكن، بدلاً من ذلك، طالعتنا إدارة التحرير ببيان سريالي، يختصر مشكلة أساسيّة برأينا في الاعلام اللبناني اليوم: غياب المرجع والنموذج، وفقدان القواعد المهنيّة والأخلاقيّة، وازدراء «القارئ». خلطة لبنانيّة أصيلة تجمع الهواية والادعاء والاستخفاف والتعنّت، مع رشّة بارانويا وشوفينيّة.
كيف ترتكب مؤسسة إعلامية رصينة كل هذه المغالطات والهفوات دفعة واحدة؟ النزوح السوري، بما يطرحه من تحديات اجتماعية، أمنية، ديموغرافية، اقتصاديّة… ليس مادة مزايدات، بل ملف حارق يفترض التعامل معه بمسؤوليّة ودقّة، وجديّة في البحث عن الحلول، واحترام للكرامة الإنسانيّة. أما أن نختار اللحظة التي يموت فيها أطفال النازحين من البرد، لننشر كلاماً تحريضيّاً، ومبالغات ومغالطات، من نوع أن المقاهي والمسارح وأماكن السهر «تكاد تكون خالية»، فيما «أمست الحمرا في أيدي «الأشقاء» أو «الغرباء» سياحة وعمالة وتسولاً»…
خلطة لبنانيّة أصيلة تجمع الهواية والادّعاء والاستخفاف والتعنّت، مع رشّة بارانويا

الصحافي المتدرّج الذي يخلط «الألوان» (الحمرا صارت «سودا») من دون وعي مسبق للبعد العنصري في ألعابه اللفظيّة، ويكتب أن «السيّاح يتسيّحون»، هل يميّز على الأقلّ بين «اللهجة الشاميّة» التي يخيّل إليه أنّه يسمعها «في كل مكان» (!) ولهجة الساحل السوري مثلاً؟ يستسلم زميلنا للغة جاهزة، لخطاب سائد، يعيد إنتاجه بطريقة آليّة من دون التنبّه لخطورته… فإذا به بوق للشعبويّة المهيمنة، فيما يظنّ أنّه يكتب تحقيقاً خطيراً سيهزّ ضمائر معاصريه. في الحقيقة لم يفعل بمعلوماته التقريبيّة ونظرته التهويليّة سوى نشر الخوف والتعصّب وتهديد الاستقرار، وإهانة شعب عزيز، متروك لمصيره على جلجلة التاريخ. العنصريّة العفويّة هي الأخطر، خصوصاً في مهنتنا. لكنّها مهنة محفوفة بالمطبّات، نتعلّمها كل يوم. ومن حق القادمين الجدد أن يتعثّروا، كما لفتت أستاذته السابقة، زميلتنا مهى زراقط على فايسبوك. المشكلة في مسؤول التحرير الذي تلقف هذا «الشيء» كساعي بريد، ونشره من دون أن يرفّ له جفن. وبدلاً من أن يستدرك الخطأ في اليوم التالي، تبرّأ من المقالة، واخترع بدعة جديرة بالحفظ: الكاتب «نقل مشاهداته الخاصة (…) وإن ضمّنها بعضاً من انطباعاته الشخصيّة». يا سلام. تحفة!
في جمهورية الموز، كل ديك على مزبلته صيّاح، ولا من يسأل. والإعلام اللبناني يفقد يوماً بعد آخر ما صنع ريادته لعقود طويلة! الصحافي الشاب الذي ارتكب مقالة العار لا يلام. فهو ينتمي الى جيل الخواء وغياب المعلمين والمراجع. من أين تراه يتعلّم الأخلاق، ويكتسب وعياً نقدياً، إذا كانت الجريدة مجرد علبة بريد ينشر عبرها ما يشاء من دون مراقبة ومتابعة ونقاش ومحاسبة؟ «ماذا علّمتك التجربة؟»، سنسأل الصحافي الغرّ بعد سنتين. وسيجيب ــ إذا استمرّ على هذه الشاكلة كما لا نتمنّى له ولنا ــ «أن أكتب انطباعاتي».