في عام ٢٠٠٩ بدأتُ العملَ على سيرة المصرفي يوسف بيدس الذي ارتبط اسمه بفترة حرجة من تاريخ لبنان هي أزمة إنترا عام ١٩٦٦. وشاءت الظروف أن يصدر الكتاب بعنوان «يوسف بيدس إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان» في نهاية عام ٢٠١٤ وقبل أيام من رحيل وداد سلامة زوجة بيدس يوم ٢١ كانون الأول. واللافت للنظر أن الإعلام في لبنان لم يذكر شيئاً عن وفاتها ولم يسلط الضوء على هذه السيدة ومن تمثل وما تخزن من ذكريات عن زوجها الذي سقط ضحية الطبقة السياسية والمالية في بيروت وعاش خارج لبنان منذ خريف ١٩٦٦ حتى توفي عام ١٩٦٨ في سويسرا.
في ٥ كانون الثاني ١٩٦٨ وجّه الوزير كمال جنبلاط رسالة إلى وداد سلامة جاء فيها ما يلي: «المؤامرة السياسية كانت غيمة سوداء فوق إنترا. الدولة هي المسؤولة عن بنك إنترا، امّا يوسف بيدس فنحن نعتبره الرجل الذي بنى أكبر مؤسسة عرفها لبنان الحديث في تاريخه القصير. ستمّر السنون ولن نرى في لبنان شخصاً يوازي ما فعله زوجك أو أن ينجح كما نجح هو في بناء هذه المؤسسة. لعلّه كان فرصة لبنان الأخيرة لبناء مصرف بمستوى عالمي. وربما كان ثمّة أمر ما غير حميد بين زوجك ورئيس الجمهورية، أو بينه وبين رجال المال والأعمال الذين راقبوا تحركاته. مهما كان الأمر، نحن نعلم عن أشياء حصلت لعلكِ لا تعرفينها».
بدأت وداد سلامة حياتها مع يوسف بيدس عام ١٩٤٦ بعدما التقيا في مدينة القدس في منزل خالها اللبناني منير أبو فاضل الذي كان يعمل في الشرطة الفلسطينية آنذاك. وفي حفل الزفاف لم يسع الفرح قلب يوسف بيدس الشاب وهو يغتنم الفرصة مراراً لتقبيل عروسه اللبنانية الجميلة. كان يوماً خريفياً ناعماً في القدس من أيام كانون الأول 1946 وقد احتشد في حفل الزفاف عشرات الأقارب والأصدقاء والضيوف للاحتفاء بيوسف، المصرفي المعروف في أرجاء فلسطين وابن العائلة الكبيرة التي كان من أبرز فاعلياتها خليل بيدس الأديب والناشر والزعيم الوطني، والاحتفاء بوداد سلامة، ابنة اخت منير أبو فاضل. ظهرت في حفل الزفاف تفاصيل عدّة عن بيدس. فقد بدا في هذا الشريط أنيقاً وسيم الطلعة، يتمتّع بطلّة جميلة وكأنّه كلارك غايبل في فيلم ذهب مع الريح أو بطل من أبطال هوليوود. والمسألة الثانية أنّه كان محاطاً بعدد كبير من الأهل والأقارب والأصحاب، بدوا جميعاً من الطبقة الوسطى ما يدحض قول كثيرين أنّ بيدس جاء بيروت فقيراً مدقعاً حافي القدمين أو أنّه كوّن نفسه وثروته في لبنان.
عندما عزمت الطبقة السياسية على القضاء على بيدس عام ١٩٦٦ بقيت وداد في بيروت

فمَن يعلم لو بقي بيدس في القدس واصبحت فلسطين دولة مستقلة ولم تبتلعها الحركة الصهيونية، لكان شخصاً عظيماً ومصرفياً عالمياً أيضاً. وستبقى حسرة في نفسه خسارة فلسطين وعدم استطاعته تسخير أفكاره ومشاريعه فيها. وعوّض عن هذه الخسارة بأن منح مواهبه إلى لبنان الذي تنكّر له وقتله في أوج تحقيق أحلامه وآماله الوطنية والعربية.
والملاحظة الثالثة هي أنّه كان يقبل عروسه وداد بشكل دائم ومن دون خفر كلّما وقعت الكاميرا عليهما. فهو كان عاشقاً للنساء وتصرّفه دلّ على تحرّر ثقافي غربي بعيداً من المحلية والتقاليد الشرقية.
أمّا عروسه وداد سلامة فقد كانت في فستان عرس أبيض بإطلالة بهية وقامة طويلة، خجولة كبنات البلاد يوم زواجهن. لقد وُلدت وداد في لبنان، وهاجر ذووها إلى أفريقيا وسنّها لم يتجاوز السّت سنوات. فأودعوها مع شقيقيها في مدرسة الشويفات الداخلية. وفي سنها العاشر انتقلت للعيش في القدس حيث يعمل خالها الذي كان على علاقة صداقة بأسرة بيدس. وهناك التقت بيوسف الذي تزوجته عام 1946.
بعد الزفاف كان يوسف ووداد في منتهى السعادة، وامتد شهر العسل ليصبح أشهراً، ثم قرّرا في منتصف 1947 أن يباشرا في انجاب الأولاد. ولكن شاءت الظروف أن يكون حظّ العريسين عاثراً. إذ إنّ نكبة فلسطين وقعت في العام نفسه، وامتد القتال إلى القدس. فأرسل يوسف زوجه الحامل الى بيروت وبقي هو في القدس يعمل إلى أن اشتدت المعارك بين الفلسطينيين والمنظمات الصهيونية، فاضطر للانتقال هو ايضاً إلى بيروت. وهكذا هاجر يوسف بيدس وزوجته مع 104 آلاف فلسطيني إلى لبنان، حاملاً بعض المال وعشرين عاماً من الخبرة في الإدارة وفي القطاع المصرفي. ووُلد ابنهما البكر مروان في لبنان عام 1948 ووُلد فيما بعد غسان وزياد. وهذه الأسماء العربية الصافية لأولاد يوسف ووداد عكست خلفية أرثوذكسية غسانية لعائلة بيدس ولتأثير الوالد الأديب خليل بيدس.
والواقع أن يوسف بيدس كان منصرفاً تماماً إلى أعماله المصرفية والاستثمارية ويمضي القليل من الوقت مع العائلة. فكان دور وداد سلامة يمتد من تربية الأولاد والاهتمام بشؤون الأسرة إلى نشاطات متعددة في بيروت شملت الحياة الاجتماعية. وعلى مدى ١٥ سنة وحتى ١٩٦٦ رعت وداد بيدس الفنون في بيروت كما فعلت كثيرات من سيدات المجتمع من جيلها وخصوصاً في إطار مهرجانات بعلبك الدولية في الستينيات. وكانت وداد سلامة سيدة مجتمع من الطراز الأول، جميلة وفي عزّ شبابها، ترتدي ملابس بذوق رفيع اختارتها من أغلى وأرفع شركات الموضة في باريس والعواصم الأوروبية، ما يناسب قامتها الطويلة نسبيّاً. وأينما حلّت في ليالي بيروت تحلّقت حولها دائرة من المعجبين، رجالاً ونساءً، يتبعون خطواتها. وكانت إضافة إلى تشجيع الفنون تصرف وقتاً في أعمال الخير. ومن أبرز نشاطاتها في دعم الفن كان رعاية الأعمال الغنائية والموسيقية، فكانت تُشاهد دوماً برفقة المطربات الشهيرات اللواتي كُنّ صديقات حميمات لها. وفي حين كان زوجها يوسف بيدس يهتمّ ببناء امبراطوريته المالية، كانت وداد تبني بيئة مكمّلة للأولى لها أوجه محدّدة في المجتمع والفن.
وهي قالت في مقابلة صحافية بعد وفاة زوجها مع مجلة المصارف: «قليل من الناس يعرف أن المرحوم كان يولي عنايته لإنترا أكثر مما يوليه لزوجته وأولاده. فحب زوجي لبنك إنترا ولتطويره وتنميته لا يسمو عليه حب آخر وأنا أقدس فيه ذلك. كان إنترا بالنسبة له قضية حياته وكرس له كل نشاطاته. وتدمير إنترا كان تدميراً لزوجي الذي كنت أقدره كرجل نابغة أكثر مما أقدره كزوج».
عندما وقعت الحرب الأهلية في لبنان عام ١٩٥٨، قرر يوسف ووداد ترحيل الأطفال عن لبنان ليتابعوا دراستهم في انكلترا. وكانت وداد تحضر إلى لندن مراراً حيث يتعلّم أولادها في المدارس البريطانية. وهناك كان موظفو فرع إنترا لندن يرافقونها في السهرات والحياة الاجتماعية والمسرح والموسيقى، أو إلى خارج لندن في جولة ريفية. فكانت تستمتع بالمقاهي الانكليزية العريقة حيث يقدّم الشاي بأنواعه مع قطع الحلوى الصغيرة والمربّى. كما أنّها كانت تصرف بعض الوقت في كازينوهات المقامرة الشهيرة لممارسة هوياتها في ألعاب الحظ. إلا أنّها لم تكن مدمنة على المقامرة، وكان إنفاقها على مشترياتها في العاصمة البريطانية معقولاً ومحدوداً وليس من دون حدود، وكانت تذهب أيضاً إلى جنيف حيث فرع لإنترا أيضاً فكانت تمضي هناك أياماً ثم تعود إلى بيروت.
عندما عزمت الطبقة السياسية اللبنانية القضاء على بيدس في تشرين الأول ١٩٦٦ بقيت وداد في بيروت لأشهر عدة تعاني من تداعيات الأزمة ومعها الابن الأصغر زياد فيما كان يوسف بيدس يسافر من بلد لآخر لجمع السيولة لإنقاذ امبراطوريته. ثم طالت الفترة التي فرّقتها عن زوجها. فطارت إلى لندن حيث ولديها مروان وغسان في آذار ١٩٦٧ وأودعت ابنها الأصغر زياد في عهدة أصدقاء للعائلة، ثم تابعت إلى سان باولو للقاء زوجها. وهناك مكثت شهرين حيث قرّرت مع زوجها أن تعيش هي في بريطانيا لتكون إلى جانب أولادها الثلاثة. واستأجرت شقّة في لندن وانتقلت إليها في أيّار 1967.
وإذ ابتعدت طويلاً من الضوء، إلا أنّها كانت تتكلم إلى الاعلام ومما قالت: أنا لبنانية ولا أصدق أن في لبنان من يعمل على تجويع شعبه وإفقاره وبهذه الحالة لا فرق بينهم وبين جمال باشا السفاح التركي. فلبنان الجميل وشعبه الطيب تسيطر عليهما قوى لا تفرق بين حق وباطل أو بين حلال وحرام، طبقة همها امتصاص أموال الناس... أنا أعيش في دوامة لم أخلقها ولم يخلقها زوجي بل افتعلتها السلطة الحاكمة في لبنان وكنا نحن ضحاياها».
* أستاذ جامعي ــ كندا