في رحلتي هذه إلى اسطنبول رأيت الكثير، وداهمتني الأفكار للكتابة كأسراب النمل من كلّ صوب. بالأمس قررت الذهاب إلى أنقرة، شاءت الأقدار أن أركب الباص الذي ينطلق بعد منتصف الليل، ليصل إلى أنقرة في تمام الساعة السادسة إلا ربع صباحاً.في الباص وجدت نفسي المستيقظ بين النيام، داهمتني الحاجة إلى الكتابة. في مثل موقفي هذا ستجد من يريد أن يتبع نصيحة فارغاس: يُخرج دفتره ويبدأ الكتابة بنهم وسعادة. فتلاقي الأفكار والرغبة نادرة الحدوث، وعلى الكاتب اقتناص الفرصة وعدم إهدارها. بينما أنا اعتدلت في جلستي، رفعت قدمي وتكوّرت على نفسي. جلست أشتت تفكيري بكلّ شيءٍ ممكن. أريد لهذه الحاجة أن تذهب بعيداً. الكتابة صعبة، وتأكل من الذات كثيراً. تكشفني عندما لا أريد الانكشاف، كأنّك تنزع عنك ملابسك ألماً مع هطول المطر. يرون جسدك العاري ولا يأبهون للبرد القارص الذي يأكلك من الخارج، أو إلى الألم الذي يأكلك من الداخل.

إنه الخوف من أن تكون سطحياً، أن تنزع عنك قميصك لتريهم مدخل رصاصة أصابتك، فتراهم يتهامسون حول شامةٍ مرتمية على الجهة المعاكسة من الصدرْ.
وفي محاولاتي لتلافي الكتابة ومراوغة الرغبة، رجعت بذاكرتي ساعتين إلى الوراء، بينما كنتُ انتظر الباص، وجدت أشخاصاً يقرعون الطبول، وبناتٍ يرقصن وأمٍ تدمع عيناها. لم أفهم الأمر. سألت صديقي بمكالمة هاتفية، فأجابني أنهم يأتون هنا ليودعوا أبناءهم الذين يذهبون إلى الخدمة العسكرية الإجبارية.
كانت أصوات الألعاب النارية مؤذية وصاخبة. ظننت أن فلسطين لحقت بي إلى هنا، لا بد أن مسيل الدموع سينطلق بعد قليل. شتمتهم في سرّي، ما الذي تعرفونه عن الحرب؟! هذا الذي تودعونه سيشرب الشاي في مقرّه كلّ صباح وغالباً لن يُطلق رصاصة واحدة طوال خدمته. هذه الأم التي تودّع ابنها وهي تعلم يقيناً أنها ستراه كثيراً بعدها، ستخجل كثيراً من نفسها لو شاهدت أم نضال فرحات وهي تضمّ ابنيها تحت جناحيها كطائر العنقاء، تودّعهم وتبارك لهم مهمتهم الاستشهادية بقلبٍ حديدي، تعانق ابنها محمّد وهي تعلم أن هذا هو العناق الأخير.
ماذا سيقول أفراد عائلته عندما يشاهدون نضال فرحات وهو يشرح لأخيه كيف ينفّذ مهمته الاستشهادية؟
كيف سيكون ردّ فعلهم بعد سماعهم هذا على سبيل المثال: "بس تدخل اللي بيحاول يشرد طخه، أي حدا بيحاول يشرد قُصّه. طخ قد ما اتطخ يا زلمة، أهم اشي ما تلتخمش وانتا بتفك المخازن، المخزن اللي بيخلص فكه وما تحطه بجيبتك، لأ ارميه. ماتحطّش في بالك انك خلص بدك تقعد بقرنة وتتردد وتقول بدي أطوّل واقاوم، لأ، خلص، انهي، استشهد".
"خلص، إنهي، استشهد" هذه الكلمات ترنّ في أذني كما لو كنت قد تلقيت لكمة على وجهي، وجدت نفسي أقول لأحد المودّعين: 50 ليرة تركية كافية لكي تزوروه وقتما تشاؤون، فلماذا كل هذه الطقوس الزائفة؟ بكلامٍ لم أفهمه وإشاراتٍ غريبة عرفت أنه لم يفهم لغتي العربية، فقلت له: لا عليك، حتى لو تحدثت بلغتك فلن تفهم ما أعنيه.
إنها لعنة فلسطين، وكأن كل ما يحدث في الكون أقارنه بفلسطين، شاي اسطنبول ليس ألذ من شاي فلسطين، الناس ليسوا كمّن هم في فلسطين، إشارات المرور سليمة وليس فيها أماكن لفتحات الرصاص كما لدينا في فلسطين.
والوطن، هذا الوطن "ابن الكلب" سرق منّي أغلى ما أملك. وبطريقة ما لا أعلمها، أصبحت أشعر دائماً بأنني مدينٌ له. هذا الوطن يسمح لك بالخروج خارج حدوده لكنّه يسافر معك كصخرة جاثمة على قلبكْ تقتل أنفاسك وتعذبك مع كل كلمة تنطق بها أو حلمٍ يختلج به قلبك. تريد الارتحال إلى أرض الهدوء، لكن يفصلك عنها صحراء، وعلى أول خطوة من الرمال الصفراء يسرق الوطن كلّ الماء والمؤونة التي معك.
أي حياة يتركها لك هذا الوطن لتعيشها بعيداً منه؟ في الداخل يقتلك الوطن، وفي الخارج يسرق منك الحياة، لتشعر وقتها، وبشيءٍ من التقصير، أن البقاء فيه من أجله أضعف الإيمان! سيسرق منك كلّ أسباب وجودك، ستكون بعيداً منه شيئاً ذليلاً، شيئاً لا أكثر، بلا ملامح، بلا هدف، بلا شيء، مجرّد شيء، يموت على قارعة الطريق.
فكرة أنني قد أموت في حادثة مؤسفة بعيداً من الوطن تجعل كلّ شعرةٍ من بدني ترتجف رعباً، حتّى الموت مدعوساً تحت أقدام سيارة في فلسطين له طعم مختلف عن الموت هُنا. شيءٌ ما اختفى تحت عجلات سيارة... لا أكثر.