يقوم فريق من البنك الدولي يترأسه مدير شؤون التشغيل في البنك نايجل توز بجولة بدأت بزيارة لمصرف لبنان وأخرى لوزارة المال لمناقشة «استراتيجية» ما لتنشيط الاقتصاد بهدف خلق فرص العمل. لم تتبلور الاستراتيجية تلك بعد، حيث ما زالت المناقشات في مرحلة «العصف الفكري»، بحسب ما قال أعضاء الفريق في حلقة نقاش حول التشغيل والبطالة في لبنان عقدها البنك الدولي يوم الجمعة الماضي.
بحسب توز، يعاني الاقتصاد اللبناني «خليطاً ساماً» من المشاكل الهيكلية وضعف النمو و«عدم الاهتمام بخلق الوظائف»، إذ إن «الأثرياء (أصحاب السلطة) بخير، لكن البقية (الغالبية) ليست كذلك». «إنهم (في الحكومة) يحتاجون إلى استراتيجية لعينة»! قال توز وهو يكاد يصرخ، رداً على سؤال حول ملامح الاستراتيجية المقترحة، رافضاً التذرع بـ «الشلل» (السياسي والحكومي)، ومعتبراً أن «المبادرات (من قبيل «رزم التحفيز» التي يطلقها مصرف لبنان وبرامج التدريب) تبقى دون مستوى التحديات بشكل يرثى له»، مشدداً على الحاجة الملحة لتأمين شروط النمو الحقيقي لفرص العمل.
تحدث توز عن مشاكل عديدة، كتدهور نوعية الخدمات العامة، والتعليم الرسمي بشكل خاص، وعن ارتفاع معدلات الهجرة التي هي «من أعلى المعدلات»، مميزاً بين هجرة الأفراد للتعلم أو اكتساب الخبرة والعودة إلى الوطن مجدداً، بما هي ظاهرة صحية، وبين الاستنزاف المتمثل بـ«هجرة الأدمغة» التي يعاني منها لبنان. المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم هي القطاع الطاغي في الاقتصاد اللبناني، قال الممثل المقيم لمؤسسة التمويل الدولية توماس جايكوبس، متحدثاً عن «أجندة حكومية فضفاضة» لدعم الأخيرة.
يشير إريك لوبورن
إلى أن الشركات «النافذة» تؤدي إلى تراجع حاد في نمو الوظائف

«سيأتي النمو من الشركات الناشئة»، يقول توز بشيء من التفاؤل الحذر، منوهاً بـ«التحسن في الوصول إلى التمويل» وبـ«رزم التحفيز» التي أطلقها مصرف لبنان (قروض مدعومة لقطاعات محددة، سكنية وخدمية في الغالب)، وبنمو عدد المؤسسات «الحاضنات» للشركات الناشئة، لكن في المقابل، ركّز توز على «الحواجز» (وقد تكون كلمة «موانع» أدق تعبيراً) التي تعيق نمو الشركات تلك، وأبرزها ضعف التنافسية (بمعنى هيمنة الاحتكارات)، وتردي البنى التحتية، الكهرباء والمواصلات خصوصاً. كلفة التمويل مرتفعة جداً في لبنان، وذلك لما عدا القطاعات المحدودة (الخدمية في الغالب، والخاصة بتكنولوجيا المعلومات) التي أنعم عليها مصرف لبنان بالقروض المدعومة، فما هي آفاق النمو المولد لفرص العمل من وجهة نظر البنك الدولي؟ تسأل «الأخبار». أظهر مسح أجراه البنك الدولي أخيراً «قيوداً على النمو الطويل الأمد»، أبرزها تردي حال البنى التحتية، الطاقة والمواصلات خصوصاً، ما يدفع إلى خيار دعم «النمو القصير الأمد»، يجيب بيتر موسلي، مسؤول برامج في البنك الدولي، ويشير زميله الخبير الاقتصادي إريك لوبورن في السياق نفسه إلى تقرير أعدته وزارة الاقتصاد والتجارة اللبنانية يبيّن أن حوالى 40% من الأسواق في مختلف القطاعات هي إما احتكارية أو شبه احتكارية، كما يشير لوبورن إلى أن دخول الشركات «ذات الصلات» (النافذة مع أركان السلطة) إلى سوقٍ ما يؤدي إلى انحدار حاد في معدل نمو الوظائف، كما يبيّن تقرير أصدره البنك الدولي أخيراً بعنوان «الوظائف أو الامتيازات: إطلاق إمكانات التوظيف الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». يشدد فريق البنك الدولي على أهمية التقرير المذكور للإضاءة على موانع خلق الوظائف في لبنان، حيث خلص التقرير إلى أن السياسات المتبعة في المنطقة «مصممة لحماية النخب الراسخة من المنافسة»، فيورد التقرير «أدلة تظهر كيف أن السياسات التي تخنق المنافسة منعت الاقتصادات في الإقليم من خلق الوظائف الضرورية لاستيعاب نمو القوة العاملة»، مشيراً إلى «الحاجة إلى سياسات تشجع الشركات الناشئة والمنتجة، والتي أثبتت أنها المصدر الأكبر لخلق الوظائف».
يعترض أحد الصحافيين قائلاً إن المواضيع المطروحة_ أي الاحتكارات وحال البنى التحتية والطاقة والتمويل_ تُناقش منذ التسعينيات، من دون أن يتغير أي شيء في واقع الحال منذ ذلك الحين، يجيب توز بسخرية أنه كان يتمنى لو أن الحال كذلك، قائلاً إن الأمور في الحقيقة «ساءت بشكل كبير» مذ ذاك! لكن «للاستمرار على هذا المنوال كلفة عالية جداً»، وثمة استحالة «لإدامة المنحى الحالي لتطور الدين» يلفت لوبورن، سائلاً عن سبب الإحجام عن تمويل مشاريع للأشغال العامة والبنى التحتية!
يتساءل البعض إن كان للبنك الدولي الذي ما انفك يبشر بأولوية «توازن الموازنة» و«ترشيد الإنفاق» و«ترشيق الإدارة العامة»، مع ما يمليه ذلك من تجميد الإنفاق الاستثماري والتوظيف في القطاع العام وتراجع دور الدولة ووظائفها، أن يعطي مثل هذه المواعظ؛ كما يُطرح السؤال إن كان البنك الدولي مهتماً بإجراء المشاورات بالفعل، أم أن جولته هذه ما هي إلا «إخراج» لزوم فرض وصفات جاهزة جديدة، من النوع الذي ورد في تقرير البنك عام 2013 تحت عنوان «الحاجة إلى توفير وظائف مناسبة»، الذي ركّز على «تحرير» الوظائف من القيود القانونية في مجالات الصرف من العمل والأجور والاشتراكات تحت عنوان «المرونة في سوق العمل».




اقتصاد بلا عمل

رغم التغنّي المستمر بمعدّلات نمو الاقتصاد اللبناني خلال العقد الأخير، إلا أن ذلك لم يترافق مع استحداث عدد كاف من الوظائف، ولا سيما للشباب والنساء. وللتدقيق أكثر، ذكر البنك الدولي في تقرير له صدر عام 2013 تحت عنوان «الحاجة إلى توفير وظائف مناسبة»، ان الناتج المحلي الإجمالي نما بمتوسط سنوي قدره 3.7% بين عامي 1997 و2009، إلا أن معدّل التشغيل لم يرتفع في الفترة نفسها إلا بمقدار 1.1% فقط لا غير. وتُعدّ معدلات البطالة مرتفعة بصورة مقلقة؛ إذ تبلغ 34% في صفوف الشباب، وتصل إلى 18% في صفوف النساء، و14% في صفوف حملة الشهادات الجامعية. ويشكل من هم دون سن الخامسة والثلاثين السواد الأعظم من العاطلين من العمل. وخلال السنوات العشر المقبلة، من المتوقع أن يصل متوسط عدد الداخلين الجدد إلى سوق العمل إلى 23 ألف شخص سنوياً. وبهدف استيعابهم، ينبغي للاقتصاد اللبناني استحداث مزيد من الوظائف بمقدار ستة أضعاف ما يوفره حالياً، إذ إن هذا «الاقتصاد» القائم اليوم لم يوفّر سوى 3400 وظيفة جديدة فقط سنوياً (بالاستناد إلى الإحصاءات بين عامي 2004 و2007).