«إن الدين العام مبني على الثقة بأن الدولة تسمح لنفسها بأن تستغل من قبل أسماك القرش المالية (...) إن الاستدانة العامة والخاصة هي ميزان الحرارة لقياس درجة قوة الثورة، إذ تهبط بمقدار ما ترتفع قوة الثورة نفسها».كارل ماركس

***


يوم الأحد المقبل ينتخب اليونانيون برلماناً جديداً في انتخابات طارئة نتجت من الأزمة السياسية، التي تعصف بالبلاد منذ 2009 مع دخول البلاد في أزمة اقتصادية كبرى. لقد تغيّر المشهد السياسي اليوناني منذ ذلك الحين، بشكل لم تعهده أوروبا منذ التغيرات السياسية الراديكالية، التي حصلت بعد أزمة الكساد العظيم في 1929. اول ضحايا هذا التغيير كان الحزب الاشتراكي اليوناني، الذي يُتوقع ألا يحصل سوى على 4% من الاصوات بعد ان حصل في 2009 على 44%.

بهذا الانهيار تكون قد سقطت إحدى تجليات الثنائية التي حكمت أوروبا لمدة طويلة، أي ثنائية أحزاب يمين ويسار الوسط، التي بدأت تهدد الديمقراطية. وكما قال المفكر طارق علي «إن الغرب في قبضة نظام سياسي لديه الحوافز والوسائل ليصبح أكثر طغياناً. إن كان هذا سيحصل أم لا، يعتمد على طبيعة ودرجة قوة المعارضة». كتب طارق علي هذا في 2010 في مقدمته لكتابات ماركس السياسية التي تتضمن «الصراعات الطبقية في فرنسا» و»الثامن عشر من برومير»، ولا مكان أكثر من اليونان اليوم تتجلّى فيه الصراعات السياسية والطبقية ذات الأبعاد القارية الأوروبية، والتي تفتح الآفاق لبناء نظام سياسي أوروبي جديد. وفي مواجهة الثنائية وفي مواجهة الفاشية الجديدة سيلعب اليسار دوراً كبيراً، وقد بدأ في اليونان مع صعود اليسار الراديكالي (Syriza)، الذي من المتوقع انتصاره الأحد المقبل.
المعركة اليوم
ضد ديكتاتورية الأسواق التي تحول الرأسمالي
إلى ريعي
وبالتالي ستشكل أول حكومة يسارية في مواجهة الثالوث «غير» المقدس، الذي يخيّم على أوروبا، وهو سيطرة التكتل الرأسمالي الذي تقوده ألمانيا والأسواق المالية وسياسات التقشف.
منذ معاهدة ماستريخت في 1992، التي مهدت للوحدة النقدية (اليورو)، سيطرت ألمانيا فكرياً ومؤسساتياً على معايير الوحدة (مثل تحديد سقوف عجز الخزينة والدين العام ودرجات التضخم في البلدان الأوروبية)، وأنشئ المصرف المركزي الأوروبي على نموذج البوندنسبنك. وبعد أزمة 2008 لعبت ألمانيا دوراً كبيراً في تشديد شروط خطط الانقاذ المالية لايرلندا واليونان وقبرص والبرتغال، وفرضت عام 2012 الاتفاق المالي، الذي يشرع بشكل أقوى سياسات التقشف المعادية للطبقات المتوسطة والعاملة والشباب والمهاجرين. ذلك من أجل انقاذ اليورو وتحقيقاً لمصالح المؤسسات المالية الألمانية وحفاظاً على الدور الريادي لألمانيا ذات الإنتاجية المرتفعة والفوائض التجارية في الاقتصاد الأوروبي والعالمي. أما الأسواق المالية، ومنذ تحريرها في ثمانينيات القرن الماضي، فإنها بدأت تدريجياً، ليس فقط تحديد العوائد على الأنواع المختلفة من الرأسمال، وبالتالي سقوف عوائد العمل وحصصهم من الدخل الوطني والثروة وذلك لصالح الرأسمال المالي. بل بدأت تلعب أيضاً دوراً في تحديد سياسات الدول وتساهم في انجاح واسقاط حكومات كما حصل في إيطاليا مثلاً في 2011 بعد أن ارتفعت الفوائد على السندات الحكومية. تعيش الحكومات الأوروبية في رعب دائم من الأسواق المالية التي تدفعها باتجاه التقشف ومحاربة ارتفاع الأجور، وذلك من أجل رفع عائدات الريعيين، الذين أوصى كينز منذ زمن بإنهائهم عبر القتل الرحيم وانهاء «السلطة الطاغية للرأسمالي لاستغلال القيمة ــــ النادرة للرأسمال». وما المعركة اليوم ضد ديكتاتورية الأسواق التي تحول الرأسمالي إلى ريعي إلا وجه من أوجه التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية كما بين ماركس.
يشاع أيضاً في أنحاء أوروبا أن التقشف هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة. ووصلت الأمور بالفكر النيوليبرالي، في آخر استفاقاته من نزعاته الأخيرة، إلى طرح نظرية التقشف التوسعي، أي أن التقشف يؤدي إلى زيادة الإنتاج وخلق الوظائف! كله في مواجهة عقود من تطبيق النظرية الكينزية التي توصي باتباع سياسات مالية توسعية في أوقات الركود، وكانت السبب الرئيسي بعد عام 2008 بعدم تكرار الكساد العظيم. بيّن الاقتصاديان ستورم وناستباد في دراسة حديثة ان الخروج من الأزمة في ألمانيا بعد 2008 حصل بسبب السياسات الكينزية وبسبب الأبعاد غير النيوليبرالية للنموذج الاقتصادي الألماني. وبالتالي فإن إشاعة نجاعة مفهوم التقشف التوسعي سيؤدي إلى تحميل شعوب منطقة اليورو أكلافاً اقتصادية واجتماعية كبيرة.
في خضم أزمة الرأسمالية الأوروبية، التي تسير بخطى ثابتة نحو أزمة كبرى، تحاول الطبقات الحاكمة منع تحول الأزمة إلى الفضاء السياسي عبر التدخل في الانتخابات اليونانية ويطلق مسؤولون في ألمانيا وفنلندا تصريحات وتهديدات بإيقاف خطة الانقاذ المالي في حال فوز Syriza، لأنهم يعلمون أن هذا الفوز سيؤذن ببدأ انهيار النظام الاقتصادي الأوروبي، الذي بدأ بناؤه في 1992، واطلاق مرحلة سياسية جديدة. فاليسار الأوروبي الآن، وبعد ثلاثين عاماً على انتهاء التجربة الاشتراكية في أوروبا، بدأ ببلورة معارضة ديناميكية واستنباط مشاريع لسلطة بديلة، المطلوب أن تؤسس لنموذج اشتراكي جديد حتى لا يسقط في فخ الشعبوية، ولكن الآن على الأقل بوقوفه في وجه الدين العام والخاص، الذي اثقل كاهل أوروبا كلها، سيعني ان قوة الثورة قد ابتدأت فعلاً بالارتفاع.

* عنوان كتاب اوسكار لافونتان،
رئيس الكتلة البرلمانية لحزب اليسار في المانيا