مَنْ كان يصدّق أنّ كيم فيلبي (1912 ـــ 1988)، الجاسوس البريطاني المزدوج في مطلع ومنتصف القرن الماضي ذهب ضحية امرأة صهيونية اسمها فلورا سولومون كانت صديقة له خلال دراستهما معاً في ثلاثينات القرن العشرين في «جامعة كامبريدج»؟ مَن كان يصدق أنّ هذه المرأة قدمت وشاية مرّ عليها الزمن، إلى الاستخبارات البريطانية حول محاولة الجاسوس الشهير فيلبي استقطابها الى المعسكر الشيوعي خلال شبابهما في الجامعة انتقاماً من فيلبي ومقالاته المعارضة للصهيونية في صحيفة الـ «أوبزرفر» في الستينات، وأنّها حملت وشايتها هذه وروَجتها لدى فكتور روتشيلد (اللورد روتشيلد) الذي ترأس سابقاً قسم مكافحة الارهاب في «وكالة الاستخبارات البريطانية» (M15).
بدوره، نقلها روتشيلد (لصهيونيته أيضاً) إلى ديك وايت، مدير الاستخبارات البريطانية آنذاك. وبالتالي، أعيد فتح ملف فيلبي وبدأت ملاحقته من جديد في مركز عمله في بيروت، وأُعيد وضعه في صفوف المشتبه بهم، ما دفعه إلى السفر خلسة الى موسكو وتمضية الأيام الباقية من حياته في المعسكر الشيوعي.
هذا بعض ما ورد من وقائع تاريخية مهمة في كتاب جديد بعنوان «جاسوس في حضرة أصدقائه، كيم فيلبي والخيانة العظمى» الصادر حديثاً عن «دار بلومزبري» في لندن ونيويورك، لمؤلفه بن ماكنتاير، المتخصّص في هذه المواضيع، مع خاتمة كتبها روائي الجاسوسية الأشهر جون لو كاريه.
شأنه شأن كثيرين مثله من طلاب «جامعة كامبريدج» في ثلاثينات القرن الماضي، تأثر كيم فيلبي بالفكر الماركسي الشيوعي. رأى أنّ الماركسية توفر مقومات بناء الدولة العادلة حيث تتساوى فرص جميع الطبقات الاجتماعية. أما فلورا سولومون، فقد شاركته هذه الأفكار، لكن إضافة الى ذلك، دفعتها جذورها اليهودية إلى الإيمان بضرورة إنشاء دولة يهودية في «اسرائيل». وعندما قرأت مقالاته في صحيفة الـ «أوبزرفر» التي كان يراسلها من بيروت في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، انزعجت من تعاطف فيلبي مع القضية الفلسطينية والقضايا العربية، وخصوصا أنّ والد فيلبي الذي عمل في السعودية في تلك الفترة، اعتنق الإسلام وسمّى نفسه عبد الله فيلبي (بدلاً من ايتش سان جون فيلبي) وصار مستشاراً لمؤسس الدولة السعودية الملك عبد العزيز بن سعود.
دفن والده في مقبرة الباشورة ضمن مراسم إسلامية


ورأت فلورا سولومون التي كانت صديقة لزوجة فيلبي الثانية (اليهودية أيضاً) أنّ فيلبي كان يروّج في مقالاته للدعاية السوفياتية التي كانت بدورها تنتقد سياسات إسرائيل، وتضعف هذه الدولة الناشئة. ويقول الكاتب ماكنتاير إنّ موقف سولومون هذا لم يكن موضوعياً، فكيم فيلبي كان مؤيداً للعرب لكنه كان ذكياً إلى درجة تحول دون ظهوره كعميل سوفياتي.
لكن سولومون استخدمت محاولة كيم فيلبي استمالتها لدخول حلقة ملتزمة الشيوعية في «جامعة كامبريدج» عام 1935 لإطلاق الاتهامات بالجاسوسية ضده بعد ثلاثين عاماً، مع أنّ جهاز الاستخبارات البريطاني (M15) كان قد اعلن سابقاً براءته من فضيحة اكتشاف عمالة الجاسوسين غاي بيرغس، ودونالد ماكلين في الخمسينات.
ويؤكد المؤلف أنّ فلورا سولومون زارت اسرائيل في آب (اغسطس) 1962، كما فعلت في مناسبات سابقة عديدة للمشاركة في مؤتمر نظمته «مؤسسة حاييم وايتزمان»، حيث التقت فيكتور (اللورد) روتشيلد، أحد داعمي المؤسسة، وصديقها منذ الثلاثينات، وبادرته بالقول: «كيف توظف جريدة محترمة كالـ «أوبزرفر» مراسلاً ككيم فيلبي؟ ألا يعرف القائمون عليها أنه شيوعي». ثم بادرت الى إبلاغه أنّ فيلبي حاول استقطابها إلى مجموعة مؤيدة للشيوعية في «كامبريدج» في الثلاثينات. ولاحقاً، قالت سولومون إنّ هدفها من فضح فيلبي كان «سياسياً بسبب كتابته مقالات معادية لاسرائيل، وتمنَت طرده من الـ «اوبزرفر»»، ولكن لدى عودته الى لندن، نقل اللورد روتشيلد حديثه مع سولومون الى قيادة M15، مما أسعد المجموعة التي كانت ما زالت تعتقد بأنّ فيلبي جاسوس سوفياتي، على رأسها مدير الاستخبارات البريطانية آنذاك ديك وايت. من هناك، بدأت عمليات الشكوك والاحاطات الاستخبارية بفيلبي التي انزعج منها أصدقاؤه في الاستخبارات البريطانية والأميركية، على رأسهم صديقه نيكولاس ايليوت (بريطانيا) ومايلز كوبلند وجيمس انغلتون (أميركا). وكانت فلورا سولومون تخشى أن تذهب هي ضحية اغتيال على يد الاستخبارات السوفياتية بسبب ما فعلته بفيلبي، ولعلها كانت أيضاً تخشى أن تُفضح دوافعها المريبة والمنحازة.
والمؤسف في هذا المجال أنّ «مسرحية» فلورا سولومون هي التي حطمت فيلبي وعلاقاته مع بريطانيا، مع أنّ السبب الرئيس (وفق مصادر مطلعة جداً على نفسية هذا الرجل) الذي أدى إلى ذهابه وركونه إلى المعسكر السوفياتي، عاد إلى المعاملة السيئة جداً التي لقيها والده عبد الله فيلبي بعد وفاته المفاجئة. علماً أنّ الوالد كان قد طُرد لفترة من السعودية لأنّه انتقد الملك سعود بن عبد العزيز، ثم مكث في بيروت عام 1960.
وحين توفي فجأة بعد سهرة في أحد ملاهي بيروت عام 1960، رفضت السلطات البريطانية قبوله ودفنه رسمياً لكونه مسيحياً اعتنق الاسلام، مع أنّه عمل في مجال الاستخبارات لمصلحة بريطانيا في فترة من حياته كما فعل ابنه بعده. ودفنه أصدقاء فيلبي في بيروت بحضور كيم نفسه في مقبرة الباشورة في مراسم اسلامية وتحت اسم عبد الله فيلبي. وهناك لبنانيون شاركوا في هذه الجنازة وأوردوا هذه الوقائع لآخرين أكّدوا صحتها. ويقال إنّ كيم فيلبي انزعج الى درجة كبيرة من معاملة بريطانيا واستخباراتها لوالده المتوفَّى وله، ما مثّل أحد العوامل الرئيسة التي دفعته إلى الانتقال إلى المعسكر السوفياتي، مع أنّ قلبه ظل في بريطانيا، وبرغم أنّ أصدقاءه في الاستخبارات البريطانية، وبينهم نيكولاس ايليوت، طالبوا بتكريمه بعد وفاته وبإزالة الصفحة السوداء عن انتقاله المفاجئ إلى المعسكر السوفياتي، حيث قضى آخر أيامه.
هذا الإنسان المعقد ربما دُفع الى القيام بعمل لم يرغب القيام به، فقط بسبب تعاطفه وتعاطف والده مع العروبة والإسلام وفي كتاباتهما ومواقفهما المعادية للصهيونية ولإسرائيل.