«طالما أن التدفقات متواصلة بوتيرة متنامية، فإن المقيمين في لبنان مستمرون في استهلاك ما يستورد...»، يقول الوزير السابق شربل نحاس تعليقاً على ارتفاع عجز الميزان التجاري على مدى السنوات الخمس الماضية. هذه العلاقة العضوية بين التدفقات المالية والواردات تكشف عنها الإحصاءات الجمركية بوضوح. فبحسب هذه الإحصاءات، فإن عجز الميزان التجاري بلغ 13711 مليون دولار في نهاية عام 2010 ثم ارتفع إلى 17181 في نهاية عام 2014. خلال هذه السنوات الخمس، كانت أعلى نسبة ارتفاع في العجز هي في عام 2010 حين تضخّم العجز 15.9%، وبلغت أدناها في 2014 بعد تضخم بنسبة 0.65%.
وتكشف الإحصاءات أيضاً عن تراجع الصادرات اللبنانية من 4253 مليون دولار في نهاية 2010 إلى 3313 مليون دولار في عام 2014، أي بتراجع قيمته 952 مليون دولار. إلأ أنه على مدار السنوات الخمس، شهدت الصادرات تذبذباً، إذ ازدادت بنسبة 5% في عام 2011 لتصبح 4483 مليون دولار ثم سلكت منحى تنازلياً مع تراجعها بنسبة 12% في 2013 و15.8% في 2014، أي أن الصادرات بدأت تتأثّر أكثر مع اندلاع الأزمة السورية في آذار 2011. وبحسب صناعيين مطلعين، فإن الأزمة السورية أدّت إلى أمرين: الأول يتعلق بتدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، ما أدّى إلى اتساع حجم السوق الاستهلاكية المحلية لتضمّ أكثر 1.1 مليون مستهلك جديد ممولين من منظمات عالمية ومنظمات دينية وإنسانية. والأمر الثاني يتعلق بالأثر السلبي للأزمة السورية على طرق التصدير البرية من لبنان عبر سوريا في اتجاه العراق ودول الخليج. تقطّع أوصال سوريا وسيطرة بعض الميليشيات والعشائر على طرق التصدير زادا من كلفة التصدير ورفع مخاطره.
أما لجهة الواردات، فقد أظهرت إحصاءات إدارة الجمارك أنها ارتفعت من 17964 مليون دولار في عام 2010 إلى 20494 مليوناً في عام 2014. القفزة الهائلة للاستيراد كانت في عام 2011 حين زاد الاستيراد بقيمة 2194 مليون دولار. يومها بدأت خطوط التجارة اللبنانية تستورد السلع الغذائية وغير الغذائية بهدف إعادة تصديرها إلى سوريا حيث كانت الحاجات الاستهلاكية كبيرة، وكان يمكن تغطية جزء منها عبر لبنان مع سهولة وصول هذه السلع عبر الطرق البرية إلى قرى حمص ودمشق ومحيطها. ويعزى جزء من هذا الارتفاع في الاستيراد إلى ارتفاع حجم الاستهلاك المحلي بسبب اللاجئين السوريين. وقد استمر المنحى التصاعدي للاستيراد حتى عام 2012، إذ زادت الواردات الى 21280 مليون دولار، وشهدت استقراراً نسبياً في عام 2013 حين بلغت 21228 مليون دولار، لكنها تراجعت بنسبة 3.5% في عام 2014 مع تسجيلها 20494 مليون دولار.
إذاً، تبدو الإحصاءات واضحة لجهة كون لبنان آلة استهلاك هائلة، إذ تبلغ حصّة الفرد من الورادات نحو 5000 دولار (من دون احتساب النازحين) ويمكن أن تنخفض إلى 3950 دولاراً بعد احتساب عدد النازحين المقيمين في لبنان. وتوازي هذه الحصّة نحو 47.5% من الدخل الفردي المحلّي (من دون احتساب الدخل الفردي للنازحين السوريين)، وهذه النسبة لا تقلّ كثيراً مع احتساب النازحين الذين تعدّ معدلات دخلهم الفردي متدنية جداً.
وتتوزّع نتائج الاستيراد والتصدير بصورة متفاوتة على المقيمين في لبنان. فكما هو معروف، نالت الفئات المقتدرة حصّة أكبر من الاستيراد، فيما تضاءلت حصّة الفئات الفقيرة والأكثر فقراً. أما المبالغ التي تدفقت لتموّل هذا الاستهلاك كلّه، فقد أنفقت من دون مقابل اقتصادي واستهلكت بكاملها من دون أي أثر في الإنتاج.