حظ عاثر رافق القوى المحلية المطالبة بنزع سلاح المقاومة في كل مراحل نضالها «الوطني»! قوى تعرف الكثير عن المكر اللغوي القائم على الشعارات والقليل القليل عن هذه البلاد التي جذّرتها دماء مقدسة. صدمة الفشل أو الإخفاق في بلوغ النتائج المرجوة بعد سنوات من الشغل «الثوري» الذي كلّف فيلتمان لوحده 500 مليون دولار جديرة بالرثاء. الانهيار التراجيدي لأحلام وأفكار هذه القوى تحت مواطئ المتغيرات الإقليمية لا سيما منها الأزمة السورية كشف عن رؤية يائسة هي نتاج قناعات راديكالية تيبّس أصحابها فيها.
ولأنّ محاولات نزع السلاح اصطدمت على الدوام باستحالة عملية فإنّ هذه القوى انكفأت وانطوت على نفسها ولم يعد باستطاعتها أن تضيف أي جديد، سوى ما كان يطرحه بعض أفرادها من حين لآخر عن ضرورة انتقال حزب الله من المقاومة العسكرية الى المقاومة السياسية على اعتبار أنّ ثمة بديلاً أقل ازدراء وانفصاماً يمكنه أن ينقذ الجميع من الورطة التراجيدية التي سميّت هزلاً «ثورة الأرز» بكل طروحاتها واهتماماتها وامتداداتها الملتبسة. وهذا ما فعله الرئيس أمين الجميّل في زيارته الأخيرة إلى الجنوب، إذ بمواقفه التي أطلقها لم يعبّر عن فرديته واستقلاليته وتمايزه عن جماعة تلاشت خطوط هندستها فحسب، وإنما أبطل جوهر نشاطها وحيلها التي أوصلت جمهور الرابع عشر من آذار إلى حالة مزرية يقف معها حائراً مشوّشاً غير آمن على قيادة تقضي ليلها ونهارها في إذكاء الشعور بالاضطهاد وهي تتحكم بمعظم مفاصل البلد!
قوى الرابع عشر من
آذار هي اليوم بقايا هزائم سياسية وفكرية

عملياً قوى الرابع عشر من آذار هي اليوم بقايا هزائم سياسية وفكرية، ظلت تشتكي من شيء لا تريده وعجزت أن تعرف ما تريده. مقارباتها لتعزيز سلطة الدولة وسيادتها تجريدية لا تسمح بتشكيل مستقبل للجمهورية الثانية إلا بحسب مصالحها وأهدافها واحتكار السلطة لتأبيد وجودها في الحكم. ومن هنا كان كل قانون إصلاحي للانتخابات يلقى معارضة منها تجعل الوطن أمام مأزق العبور إلى تاريخ جديد يؤكّد السلام الاجتماعي اللبناني بما هو مصالح ومشاعر متبادلة بين أبنائه.
سيكون على هذه القوى أن تتصالح مع نفسها أولاً. أن لا تذهب خلف الشعور الزائف بالاستضعاف وبكونها منزوعة الخيارات في ظل هيمنة السلاح! أن لا تستخدم «الحرية» كقناع في كرنفال النزاع والجدل، فتصبح مجرد خطاب نثري يهتم بالثرثرة الإعلامية وتعداد أسماء «القتلى» لدى حزب الله وكأنّ إحدى مهماتها المقدسة كشف «الجناة» منه الذين يذهبون إلى سوريا، بلا إدراك للمعايير القيمية والإنسانية وبلا وعي لطبيعة التحديات الوجودية على الكيان اللبناني الذي ينزلق عميقاً في طين الانقسامات والخلاف على الأولويات، في حين يعجز القاعدون على ارائك التنظير سوى أن ينظروا ببلادة إلى تجار الأوطان والحروب والغوغائيين والتكفيريين يفسدون بلادهم وينهبون ثرواتهم، وسوى الهروب إلى أحضان المستعمرين لتدبير معيشة ذليلة بائسة. سيكون على هذه القوى رسم مقاسات حركتها في إطار الحفاظ على الوطن لا السير في استراتيجيات التفكيك والفوضى التي جعلتها أميركا أساساً تشيّد عليها خريطة لقبائل الألفية الثالثة من العرب والمسلمين!
إنّ كل الدلائل تشير اليوم إلى تضاؤل قوة الولايات المتحدة الأميركية الراعية لهذه القوى وانخفاض استعدادها للاشتراك في التزامات تحملّها أعباء تطلعات حلفائها، خصوصاً أنّها تقدم مشهداً مبعثراً للمسرح السياسي الإقليمي لا يسمح لها بتشكيل المنطقة على الصورة التي تريدها. وبالتالي على هذه القوى إعادة الاعتبار الى العقل المسؤول وقراءة التحولات بدءاً من لبنان إلى أرجاء المنطقة من زاوية هبوط القيمة الاستراتيجية للولايات المتحدة، وفي إطار بناء الشروط المطلوبة لتحصين الوطن من خرائب وحرائق لا يمكن تبريرها بمنطق الحاجات «الثورية» على الإطلاق. هنا لا بد من إعطاء بعد أوسع وأغنى يتسم بالمنهجية والعقلانية بشأن انخراط حزب الله في سوريا عبر تحليل وثائقي وموضوعي لهذا الوضع الطارئ الذي كرّس بطريقة وأخرى سلاحه وسط كل هذه الجلبة التي لم تأتِ بشيء. إذ ما زالت النظرة إلى هذا الموضوع تفتقد إلى القراءة التاريخية العلمية كصيرورة لها أسباب ونتائج، وحلّت محلها شعارات ومقولات جاهزة تكشف عن مدى مساحة الضوء المفقودة في بلد لا يجتمع أبناؤه على ثوابت وطنية وسياسية تحميه من التصدّع، ولا بكونه يستأهل الذود عنه والمخاطرة من أجل بقائه. في عمق الموقف، لا تستطيع المقاومة الاندراج في النسق الانهزامي الذي تسير فيه قوى الرابع عشر من آذار. لا تقدر على الانسلاخ عن الأرض والاكتفاء بالاكتئاب على الأحداث الأليمة التي تجري على أرض هي واحدة وإن تعددت الحكومات التي تتقاسمها. الحرب التي وجد حزب الله نفسه في خِضّمها ليست وليدة ظروف أو شروط منظومة بسيطة فحسب ولا نتاج تفاعل وتجاذب معقد فقط، هي مجموعة مركّبة من كل ذلك، ومن عوامل صدام إقليمي دولي على مستقبل ومصير المنطقة. وهي قبل أن تكون بالنسبة إليه حرباً بمعناها المادي هي اختيار ثقافي وسياسي، ما يجعل مواجهته للتكفيريين محاججة ثقافية وأخلاقية كما هي الحالة السائدة مع العدو الإسرائيلي تماماً.
الافتراق التدريجي لشمل هذه القوى مع رعاتها أمر لا مفر منه في النهاية، لأنّ التحالفات التي تنشأ على اعتبار القضايا ألعاباً ورقية نادراً ما تدوم. وليتأمل هؤلاء ما ينطوي عليه الاتفاق النووي مع إيران بدلاً من خوض صراع عقيم لنزع سلاح لم تستطع، لا أرقام مالية فلكية ولا حلف تمدد خارج «الناتو»، إليه سبيلاً. الفرق بين حزب الله وقوى الرابع عشر من آذار أنّ الحزب لا يهاب من متابعة تورطه في الهمّ والمسؤولية ولو غالى البعض بالتجريح والطعن والخصومة لأنّه يبحث عن أفق، بينما لا تكفّ هذه القوى في أوهامها وتخبطها عن البحث عن سلطة!
* كاتب وأستاذ جامعي