ليس تفصيلاً أن يتم ضرب حنا غريب، في انتخابات رابطة التعليم الثانوي. الرجل يقول إن جريمته السلسلة. خصومه يتذرعون بالديمقراطية. المراقبون من بعيد، كلما كانوا أكثرية كان بعدهم عن الحدث والفعل فيه أكبر، يكتفون بكلمة «حرام»! لكن المسألة أكثر عمقاً ودلالة وبنيوية.في بيئة «القومية اللبنانية»، في وسط الطبقة الوسطى المرتاحة، والمريحة للطبقة السلطوية العليا، في زمن الحرب الأهلية ــ الخارجية المتهرب من مسؤولياتها تحت ذريعة «حرب الآخرين على أرضنا»... في تلك الأجواء ينشأ الشاب على أفكار كثيرة مسبقة معلبة جاهزة للبلع والهضم.

من أبرز تلك، أن الكلام عن مؤامرة القوى السياسية مجتمعة على الناس، هي في ذاتها «نظرية مؤامرة مَرَضية». في تلك البيئة، لم يكن يُسمح للشاب الباحث عن حقائق واقعه بأن يصدق بأن الزعيم المسيحي مثلاً، حليف موضوعي للزعيم الدرزي، أياً كان الرجلان. ولم يكن يعقل القبول بمنطق أن الإقطاع الشيعي، عائلياً كان أو «وطنياً»، هو الرديف الفعلي الكامن والكامل للإقطاع الماروني، جبلياً جردياً كان أو ثورياً.
في تلك البيئة وفي ذلك الزمن، حين كان اليسار اللبناني يتحدث عن أن الطائفية ذريعة، أو لعبة مصطنعة مفتعلة ملفقة الأسباب مركبة الأدوار، كنا نثور على هذا «المنطق التضليلي». كنا نرفض التصديق بأن الشيخ بيار هو نظير صائب بيك، أو أن كميل شمعون هو الوجه الآخر لميدالية كمال جنبلاط في الجبل والوطن. كنا نطرد مجرد الفكرة بأنهم كلهم حلفاء موضوعيون، في سيناريو سلطة، في توزيعة كومبارسية، أمام جمهور غفور، وفق مفردة فيلمون الرحبانية. كنا نتوهم ونحلم ونتمسك ونتعنت، بأن ثمة قضايا كبرى، اسمها الطوائف. وثمة حقوق كبرى اسمها الجماعات. وثمة نضالات وتاريخ وهويات ــ قاتلة أو محيية لا فرق ــ وثمة شخصيات قاعدية ومتخيلات جماعية وأبعاد سوسيولوجية وأخرى ما ورائية... وثمة وثمة، وكلها تستحق، لا بل توجب هذا الانقسام العمودي حتى القتال، حتى الاقتتال، وحتى القتل.
بعدما انتهت الحرب، أو الحروب، يقف الشاب الناجي من تلك المطاحن البشرية، ينظر وراءه وأمامه، ويصدم، ويذهل. علام كانت الحرب الداخلية؟ كيف كنا لعبة ولعباً ومسرح ألاعيب وأبطال من صنف واحد: ألعبان.
كل ذلك يقفز إلى ذهنك وأنت تسمع نتيجة الضربة التي تلقاها حنا غريب. ليس الشخص المقصود. ولا الاسم. بل الدور النموذج الصفة الموقع الجانبية والجاذبية. المقصود هو هذا الفرد الإنسان، هذا الشخص البشري، هذا المواطن الذي يناضل من أجل حق مواطن آخر، من دون تبعية. من دون مرجعية. من دون قدرة على تحديد حزبيته ومذهبيته ومنطقته وغرضيته ورسنه وعليقه. المقصود هو هذا المفهوم للرجل المتحرر من كل خوف ومن كل حاجة. هذا هو المستهدف بالذات. هذا هو الممنوع والمحظور. هذا هو المطلوب ضربه بأي ثمن.
ففي الأساس والأصل، ممنوع أن يكون ثمة مشتركٌ ما بين اللبنانيين. كما حنا غريب ممنوع، كذلك ممنوع أن يكون لك قانون مشترك تسجل بموجبه زواجك مدنياً، دولتياً عصرياً. لأن قانوناً كهذا يولد شيئاً مشتركاً بين لبنانيين اثنين، من دون مقاطعجي سلطة أو جابي سلطنة. ولو كان ثمة قانون لبناني واضح يفرض ذلك. ولو كان ثمة قانون أسمى، اسمه الحب، يفرض نفسه على كل قانون ومشترع و»مشرعب». رغم ذلك كله، لا بل بسبب وجود كل هذه، ممنوعة مساحة الزواج المدني المشتركة. ممنوع أن يكون حيز لحب نضال وخلود. لا كمجرد شخصين وحسب. بل لأنه ممنوع النضال من أجل المواطن، ومحظور الخلود إلا لشلمسطيي الروحيين.
وكما حنا غريب ممنوع والزواج المدني ممنوع، كذلك ممنوع أن يكون ثمة نقل مشترك في البلد. ممنوع أن يكون عندنا قطار. وممنوع المترو. وممنوع أن يتلاقى أهلنا في قافلة واحدة أو يلتقي شعبنا عند في محطة. فللأمر رمزية كبيرة ونتائج نفسية وشعورية وذهنية جذرية. ممنوع ذلك، اعتباراً ربما من الحلم الرحباني أيضاً، بأن «الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب التران». ممنوع أن نسافر حتى في الحلم. لأن بُعد الحلم نفسه خطرٌ على طبقات السلطة.
وكما حنا غريب والزواج والنقل ممنوعون، كذلك ممنوع أن تكون بيروت ــ البلد مكاناً للسكن. ممنوع أن تعود ساحة مشتركة. ممنوع أن تعود طاحونة لزؤاننا. ممنوعة تلك الخلطة النيويوركية التي تشذب الأرياف وتمدن شعوباً. مسموح لها فقط أن تكون ملهى ليلياً، ومكتباً مالياً، وسوق مضاربة عقارية، بما يضمن ترييف كل الوطن، وتسييله سندات بأيدي سنديك تفليسة.
فكيف إذا كان نموذج حنا غريب الممنوع هذا، في قلب جهاز السلطة. في صلب التركيبة اليعقوبية السلطوية الأحادية الاسمها دولة. هو هنا، ليس معلماً. ولا مواطناً. ولا حتى إنساناً. هو هنا أجير. ومفهوم الأجير في عرف سلطويينا ودولتهم، ليس الشخص الذي يتقاضى أجراً لقاء عمل. بل هو الكائن الذي حسبُه في حياته أن له أجراً عند السلطة التي تكرمت بتركه يعيش، وأن له نجراً، إذا ما نسي لحظة هذا المفهوم لكونه أجيرها.
لم نكن نصدق أنهم فريق واحد. حتى ضربوا حنا غريب. أجره الكبير أنه فضحهم.