يكتب حسن داوود روايته الأخيرة «نقّل فؤادك» (دار الساقي) بين زمنين متباعدين، ويجلبُ مع هذين الزمنين أمزجةً وأنماطَ سلوك وتبدلات الأمكنة والمجتمعات التي عِيشَتْ فيهما هذه الأمزجة. في الثامنة والخمسين من العمر، يقرر بطل الرواية (قاسم) أن يبحث بجدية عن دلال التي كانت حب مراهقته، والتي ينبغي أن تكون قد صارت في عمره تقريباً أوأقل بسنة. سنعرف أن دلال الأردنية غادرت إلى بلدها، قبل أن تتحول التفاصيل (القليلة على أي حال) التي جمعتهما إلى قصة أو حتى مشروع قصة.
وسنعرف أن هذه التفاصيل قد لا تكون عَنَتْ شيئاً مهماً لدلال نفسها، وأن بطل الرواية يتخيّل تتمّات وسيناريوهات لحوادث قليلة وضئيلة لا تملك بالضرورة هذه التتمات الحتمية. لم يقُل بطل الرواية وهو في عمر الـ 16 شيئاً واضحاً وحاسماً لدلال، بل استعذب تلك المكابدة الصامتة والسلبية تقريباً التي ينتظر أصحابها عادةً أن تُريهم للآخرين في هيئة العشاق والمحبين.
نستطيع أن نمضي أكثر في حكاية الحب هذه، ولكن ينبغي أن نقول إن هذه الحكاية ليست إلا جزءاً من مزاج شخصٍ لا يكفّ عن تأمل الأشياء والأمكنة، ومراقبة حركة البشر وتخمين تصرفاتهم، وتأليف قصص وسياقات دائمة لما يراه ويراقبه، واضعاً نفسه أثناء ذلك في قلب هذه السياقات أو في جوارها. تكاد الحكاية أن تكون حجةً لعرض مزاج كامل ينتمي إلى زمن سابق، ولا يجد نفسه في الزمن الحالي. مزاجٌ مقيمٌ في زمن «التذكر المَرَضي» الذي يتسع على حساب زمن العيش، حيث التقدم في السن يصنع مسافة بين بطل الرواية وبين مستجدات المدينة والعمل والحياة اليومية فيها. هكذا تصبح حكاية الحب هي قمة جبل الجليد التي تنهض على أحشاء وأعماق تحتشد تحته، ويسمح لها الرواي أن تتدخل في بناء الرواية، حيث ستصبح قصة الحب المستحيلة والمؤجلة تلك مجرد خيطٍ أو نقشٍ في نسيج السرد الذي لن يتغير كثيراً حين يتحدث الراوي/ البطل عن تفاصيل أخرى تحدث له.
البطل ليس في حالة
عطالة اختيارية بل لا يجد منافذ لتصريف طاقته ومزاجه

لا يبدو بطل الرواية في حالة عطالة بديهية أو في مزاجٍ اختياري لتأجيل الأشياء. صحيحٌ أنه يتلذذ بتبطيء ما يراه كي ينفذ إلى جزيئاته وطبقاته غير المرئية، ولكنه في الوقت نفسه يجد صعوبة هائلة في أن يكون جزءاً مما يراه ويُبطئه. علاقته بالكتابة والصحافة تزوّده بموهبة إعادة كتابة ما يراه ويعيشه، وتصنع له صلة قوية برواةٍ آخرين في روايات حسن داوود السابقة، حيث إبطاء الزمن ومراقبة مشهديات الحياة وتأمل ما وراء مجرياتها تقنياتٌ وممارساتٌ جوهرية في نبرة صاحب «أيام زائدة» وحساسيته الأسلوبية. وسط المدينة الجديد حيث يقع مقر المجلة التي سيعمل فيها الراوي يطرده إلى ما كان عليه المكان قبل أن يُعاد إعماره. في المجلة ذاتها، يجد «أن هناك غلطاً ما في أن ينتقل شخصٌ إلى عمل جديد وهو على قرب خطوتين من عمر الستين»، وأن الشبان الذين يعملون فيها «سيبدأون بتأسيس روابط الزمالة، بل روابط الصداقة، بين بعضهم البعض مُبقين علاقتهم» به هو «مثلما كانت في اليوم الأول» لمعرفته بهم. صاحب المجلة أيضاً لن تعجبه المقالات التي كتبها الراوي أو تلك التي استكتب فيها كتّاباً آخرين للمجلة الموعودة. تفاصيل مثل هذه تزيد المسافة التي يحس الراوي أنها تفصله عن العالم الجديد، أو تعوقه عن الانتماء إليه حتى حين يحاول «رفع الكُلفة» مع زملائه الشبان في المجلة، أو يقضي بعض الوقت مع صديقه وائل في المقاهي المجاورة لمقر المجلة في وسط المدينة. حواراته مع صديقه تكشف أكثر فأكثر «إقامته في الماضي». إقامةٌ لا تتحدد أو تقتصر على عودته المستمرة إلى قصة حبه مع دلال، وبحثه عن طرق للعثور على خيط يقوده إلى رؤيتها أو سماع أخبارها مجدداً، بل هي إقامةٌ تشمل مزاج من هم في عمره، أو هي مزاجه هو على الأقل. ذاك المزاج الذي يتطلب منه أن يعاني من «الاندماج» مع زمن الأجيال التي جاءت بعده، وأن يروي ذلك في رواية تتحدث عنه وعن معاناته أيضاً. ثم ينتهي ذلك بأن يقول لنفسه: «هل بات عليّ أن أتصرف بحسب ما يُمليه علي العمر الذي صرتُ فيه؟ العمر الجديد الذي لا أتعلم كيف أكون فيه إلا بعد تلقّي الصفعات». هكذا، لا يبدو البطل في حالة عطالة اختيارية كما قلنا، بل لا يجد منافذ لتصريف طاقته وحواسه ومزاجه. يحاول أن يُجاري ما يحدث، ويحس بنوع من «التشفّي» حين يرى أن مقاهي ومتاجر وسط المدينة فارغة، ويُرضي غروره أن بعضها أقفل أبوابه. يستبدل علاقته المفترضة بالمكان بمراقبته لثلاث عاملات أجنبيات يداومن على الجلوس في طريق ذهابه إلى مقر المجلة وإيابه منها. كأن الراوي يخلط «غربته» عن المكان الجديد بـ«غربة» غرباء حقيقيين عنها. وفي غضون ذلك، نصادف تلك الجمل والسطور الآسرة التي يبرع حسن داوود في تأويل مجريات حياة الراوي بها، وفي إعادة كتابة بعض أجزائها على شكل «قطعة أدبية».
هذا هو شغل حسن داوود، نقول لأنفسنا ونحن نقرأ الرواية الجديدة، وقد يخطر لنا أن نجد صلاتٍ لها مع روايات محددة له. سردياته عن المكان المديني المجدَّد تذكّرنا بمرويات بطله المعوّق في رواية «غناء البطريق» عن المكان نفسه الذي كان قيد البناء وقتها، وتذكّرنا أيضاً ببيروت وعمارتها كما ظهرت في باكورته «بناية ماتيلد» التي كتبت في زمن الحرب ودمار المدينة. كأن الرواية تترجم علاقة الراوي والمؤلف معاً مع مدينته، ويتأكد لنا أن حب المراهقة ذاك تفصيل صغير داخل هذه العلاقة الشائكة التي يخسر فيها الراوي حضوره ومساحاته في مستجدات المدينة كلما تقدم به العمر.