«إذا أُعطينا حقوقنا كاملة، سنقدّم للمواطنين تقديمات صحية كاملة. أمّا إذا أُعطينا 50% من حقوقنا، فلن نقدم للمواطن سوى 50% من التقديمات الصحية»، بهذه الرسالة المباشرة الموجّهة ضد وزير الصحة وائل أبو فاعور على خلفية ملاحقته بعض ملفات الفساد والاستهتار والأخطاء الطبية، أعلنت نقابة أصحاب المستشفيات بصراحة تامّة، أمس، أنها تتخذ من صحّة المقيمين في لبنان رهينة لمصالحها. المصالح نفسها التي ترسّخت بفعل «الزبائنية» المسيطرة على إدارة النظام السياسي، والتي منعت حتى الآن من تأمين تغطية صحّية شاملة، كافية ومستقرة، لجميع اللبنانيين.
«منذ سنوات، تتكرر شكاوى وانتقادات من مواطنين، أسيئت معاملتهم من قبل المستشفيات. هذه الإساءة غالباً ما تكون أبعادها مادية. يسارع المسؤولون على الفور لاتخاذ إجراءات وعقوبات ضد المستشفى». بهذه العبارات اشتكى رئيس نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون من «مضايقات» وزارة الصحّة. قال في مؤتمره الصحافي أمس إن وتيرة «معاقبة» المستشفيات، ارتفعت أخيراً، لتتحول «حملة ممنهجة» ضد القطاع الصحي والمستشفيات تحديداً. والمسألة «أعمق من شكوى مواطن في طوارئ مستشفى أو على أبوابها»، وأضاف أن الأمر يتكرر منذ سنوات «دون أن يزول». لذا، النقابة ترى أن «هذه الادعاءات إما مبالغ فيها، وإما الإجراءات المتخذة غير مجدية». المسألة الأعمق ـ بحسب هارون ـ تعود إلى «المقومات الموضوعية غير المؤمنة التي تعوق المستشفيات عن القيام بواجباتها تجاه المواطنين». اختزل هارون هذه المقومات بمجموعة من المطالب المادية الصرف المتمثلة برفع مساهمة الدولة، رفع التعريفات الاستشفائية، تسديد مستحقات المستشفيات لدى الجهات الضامنة، رفع السقوف المالية، حصر علاج اللاجئين السوريين (الذين لا تغطّيهم موازنة الأمم المتحدة) بالمستشفيات الحكومية، وإعادة النظر بموضوع تصنيف المستشفيات. بمعنى ما، تقرّ نقابة المستشفيات بالمآسي الحاصلة على أبوابها وصناديقها وداخل غرفها «الفندقية»، إلا أنها ترى أن هذه المآسي تتصل بكمية المال. يقول لسان حالها: «ادفعوا لنا ما نريد، لأن حياتكم بين أيدينا». شيء يشبه «الفدية». يجب أن ندفع كي يتركونا أحياءً. فدية إضافية عمّا اكتسبه أصحاب المستشفيات على مرّ السنوات بفعل الزبائنية والفساد المستشري وغياب أي سياسة صحية لا تبغي «الربح» لهم.
تحاول نقابة المستشفيات
إقناع الناس بأن كلفة الاستشفاء ليست مرتفعة


ما هيّج المستشفيات ليس مشروعاً إصلاحياً للنظام الصحي المرتكز برمته على مصالح النافذين في القطاع. ليس مشروع التغطية الصحية الشاملة، على سبيل المثال، الذي جنّد كل الزعماء ضده. ما هيجها، حقاً، جملة بسيطة جداً من إجراءات التدقيق في الفواتير «المنفوخة»، التي تشفط من المال العام، ومراجعة للتصنيفات، التي أتاحت تحويل الكثير من المستشفيات إلى «5 نجوم»، وأيضاً، إتاحة المجال للمواطنين لتقديم شكواهم ومتابعتها، ولا سيما في حالات القتل الفعلي بسبب أخطاء طبية وإهمال واستهتار، أو محاولات القتل بمنع الإسعاف والعلاج قبل توفير المال. كل ذلك يدخل في إطار الإجراءات «العادية» التي لا تنطوي على تغيير فعلي في منظومة المصالح، ولكن أصحاب المستشفيات يريدون أن يبقى الوضع على ما هو عليه. يرون أن «الوضع القائم» صار حقاً مكتسباً، ويشعرون بأن بإمكانهم الحصول على المزيد.
وزير الصحة وائل أبو فاعور، في اتصال مع»الأخبار»، رأى أن ما قيل في المؤتمر الصحافي، أمس، «يزيدني رغبة في الاستمرار بما أقوم به»، مشيراً إلى أن «لا حق لأي مستشفى في أن يمس أموال الدولة اللبنانية». وأضاف أبو فاعور: «شكاوى المواطنين من سوء معاملة المستشفيات لا تتوقف ليلاً ونهاراً»، على الرغم من أن الوزارة تعمل مع الجهات المختصة على تسديد مستحقات هذه المستشفيات المتراكمة، «وح تاخد كامل حقوقها». ورأى أبو فاعور أن الرد الأبلغ على المسائل التي أثارتها نقابة أصحاب المستشفيات، سيكون من خلال «استكمال الإجراءات التي تتخذها الوزارة بحق المخالفين».
كان وزير الصحّة وائل أبو فاعور قد استنفر المستشفيات عندما حثّ المواطنين على تقديم الشكاوى إلى وزارة الصحة مباشرة، والإبلاغ عن أية مخالفات تحصل من قبل المستشفيات أو الأطباء، وتحدث عن «مرحلة جديدة قد بدأت»، محذراً النقابة من «أي إذلال أو خطأ بحق أي مواطن، أو أي استنسابية في التعامل مع المرضى وانتقاء للحالات، أو أي ردّ لأي مريض يحتاج للعناية الطارئة»، وهدد بأن ثمن ذلك سيكون «إلغاء العقد الموقع بين المستشفى ووزارة الصحة مباشرة». تحاول نقابة المستشفيات إقناع الناس بأن كلفة الاستشفاء في لبنان ليست مرتفعة، وبالتالي هناك غبن يلحق بأصحاب المستشفيات. حجّتها في ذلك، أن حصّة الفرد من الإنفاق على الاستشفاء تبلغ 375 دولاراً سنوياً فقط، فيما يبلغ في فرنسا مثلاً 1575 دولاراً سنوياً. يضع هارون هذه الأرقام ليردّ على وزير الصحّة بأن المستشفيات ليست في موقع المتهم، بل هي في موقع يستحق رفع التعرفة (مجدداً) لتقديم رعاية صحيّة أحسن للمضمونين، وتستحق أيضاً أن تسلخ جلد المرضى غير المضمونين لتفادي تراجع الربحية، بحسب ما تفرضه شروط السوق الحرّة.
تسدد الأسر إلى المستشفيات مباشرة، أكثر من 700 مليون دولار سنوياً، على حساب مستوى معيشتها بسبب انعدام الضمان الصحي لدى نصف الأسر اللبنانية، أو بسبب اضطرار الأسر المضمونة إلى دفع ما يسمّى «الفروقات»، وهي نوع من الخوّة الموصوفة. ردّ هارون على تهمة فرض «الفروقات» جاء مذهلاً، قال: «إن اعتماد التعرفة نفسها منذ 15 سنة (هذا غير صحيح، إذ رُفعت أكثر من مرّة في الفترة المذكورة)، جعل المستشفى يخيّر المريض بين أن يُعالَج وفق التقنيات نفسها المعتمدة منذ 15 عاماً أو العلاج بالتقنيات الحديثة ودفع فروقات إضافية عن التي سيدفعها أساساً!»، لذلك، يقول هارون، إن نقابة المستشفيات تطالب الدولة الآن برفع التعرفة ورفع مساهمتها في الإنفاق على الاستشفاء بنحو 400 مليون دولار من 800 مليون حالياً إلى 1200 مليون دولار، وإلا، بحسب ما أعلن هارون، «فهي تضع المستشفيات، الأطباء والمواطنين في مواجهة محتمة».
ليس هذا فحسب، اتهم هارون وزارة الصحة بإجراء حسومات عشوائية على فواتير المستشفيات بحجّة أنها «مضخّمة». وتجاهل كل الأسئلة عن الملفات التي قدّمها وزير الصحّة وأثبت فيها أن مستشفيات تقدمت للوزارة بفواتير استشفاء أشخاص متوفين أو وهميين. اكتفى هارون بالرد أنّ «المسألة محصورة بعدد قليل من المستشفيات ومراقبي وزارة الصحة».
تزايد الشكاوى من رفض المستشفيات حالات طارئة تحتاج إلى إسعاف أو عناية فائقة، وصولاً إلى تسجيل المزيد من حالات الموت على أبواب المستشفيات بسبب المال. لا تجد نقابة المستشفيات سبباً لهذه الشكاوى سوى «الضغط النفسي»، فهو الذي يدفع المواطن إلى رواية القصة «على ذوقه»، بحسب هارون. كرر أن الحالات التي تشكل خطراً على المريض «المستشفى ملزم بإدخالها»، لكن الحالات الأخرى لن تُستقبَل إن لم يكن بمقدرة المستشفى ذلك. لم توضح النقابة طريقة تصنيف حالة المريض الخطرة أو غير الخطرة. كيف يحصل التصنيف ما دام «الصندوق» هو الذي يقرر وليس الكشف الطبي. لم يرد هارون أن يتورط أكثر في الحديث عن هذا الجانب، تخلّص منه كما هو معتاد. دعا إلى تقديم الشكاوى إلى القضاء للتحقق منها، «قبل اتخاذ أي عقوبات بحق المستشفيات».
خلاصة موقف نقابة المستشفيات أمس، أنها قررت الهجوم لمنع أي تحريك في الوضع القائم، هذا التكتل للمصالح يشعر بقوّة تسمح له بأخذ الناس رهائن: إمّا أن يتوقف التدقيق بالفواتير والشكاوى وإلا فسنجعلكم تدفعون المزيد من الأثمان. «كل شي بحقو»، ولأن الأمر كذلك، سارعت النقابة إلى البدء بتنفيذ تهديدها بالنيل من الفئة الأكثر هشاشة، أي اللاجئين السوريين، إذ أعلن هارون أنهم «يشكلون ضغطاً إضافياً، ويشكلون في بعض المستشفيات نحو 20% من المرضى». وبما أن «قسماً كبيراً منهم ليس لديه أي تغطية صحية من أية جهة»، لذلك تمتنع المستشفيات عن استقبالهم وستجبر الصليب الأحمر والدفاع المدني على نقلهم حصراً إلى المستشفيات الحكومية.