في صيف سنة 1859، عقد اجتماع للأعيان الموارنة والدروز من القائمقاميتين، في المديرج، بالقرب من مقر القائد خورشيد باشا وبإيحاء منه. خلال الاجتماع، توجه الشيخ حسين تلحوق إلى الحضور يشرح لهم أن سبب خفض مقامهم وتراجع هيبتهم لدى الأهالي، وصولاً إلى إزاحة سطوة الخازنيين في كسروان، هو عدم توافقهم في ما بينهم. وسألهم، واحداً واحداً، إذا كان الأهالي ما زالوا يؤدّون لهم واجب احترام مقامهم ورتبتهم، فأعلنوا جميعا أن لا. فدعاهم إلى توقيع عهد أن يكونوا «يداً واحدة» ليؤدّبوا الأهالي، ويزيحوا طانيوس شاهين، وهذا ما فعلوا، بالأثمان المعروفة1.
خلال السنوات الثلاث الماضية، عندما طرح موضوع تصحيح الأجور في القطاع الخاص أولاً، ثم في القطاع العام، بعد ثمانية عشر عاما من تجميدها، وتحركت هيئة التنسيق النقابية لتقود أكبر تحرك شعبي مطلبي في تاريخ لبنان الحديث، تضعضع الأعيان، ففاوضوا ووعدوا وتعهّدوا. دبّ القلق في قلب بلاط الرساميل الريعية، المالية والعقارية، وخافت على النظام. فاجتمعت قيادة أركانها وأعلنت أنها الباب العالي، وهي تطاع ولا تطيع. عندها نسي الأعيان خلافاتهم ووعودهم، فتآلفوا جميعاً، يداً واحدة، ليؤدّبوا الأهالي، وطالبوا هيئة التنسيق بالاعتذار منهم وبتأدية واجب احترام مقامهم ورتبتهم. واعتقدوا يوم الأحد الماضي أنهم فازوا فوزاً عظيماً بإزاحة حنا غريب عن «رئاسة رابطة أساتذة التعليم الثانوي» لصالح «لائحة التوافق»!.
في صحيفة الأمس، نشر أحد المصارف اللبنانية حساباته عن سنة 2014، فإذا به يربح مليون دولار كل يوم، في كنف دولة لا تنشر حساباتها منذ عشرين سنة، لكنها تؤمّن كل أرباح المصارف من المال العام! وفي الصحيفة، أيضاً، أن الجيش اللبناني ما زال ينتظر الهبات ليحمي جنوده قبل حماية البلد والناس، بالإضافة إلى انتظاره السلسلة أسوة بسائر الموظفين، وانتظاره الغطاء السياسي ليقوم بواجبه، أسوة بالقضاء وقوى الأمن. من، يا ترى، يحتاج إلى غطاء من من؟ الناس من الدولة أم الجيش والقضاء من الأعيان أم الأعيان من المصارف والواهبين؟
وفي الصحيفة ذاتها أن الأعيان يجتمعون وينسقون وهم، ما داموا يتحاورون، يسمحون باستتباب الأمن، ويصرّحون بأن على المواطنين أن يسعدوا بدوام حواراتهم. من كان يعكّر الأمن إذاً يا ترى أو يتركه يتعكّر؟ وهل هذا الخطاب خطاب طمأنة أم خطاب تهديد؟
وفي الصحيفة أيضاً أن اليونان تمرّدت على الرأسمال الريعي العالمي، ولم ترضخ لتهويل الترويكا المالية، فأزاح الناخبون اليونانيون، بنسبة 40 في المئة منهم، كتلتي الأعيان المتخاصمتين (لا يهم إن كانتا آذاريتين أو لا) اللتين حكمتاهم طوال 40 سنة، بالتآلف والتناوب، لصالح كتلة سياسية لم تكن موجودة قبل بضع سنوات.
لكن 40 في المئة من الأساتذة تمردوا على رابطة الأعيان المتآلفين أيضاً، يوم الأحد الماضي، في لبنان، وكثيرون آخرون يشعرون دون شك بالخجل لانصياعهم وراء الأعيان الذين لم يترددوا في خيانتهم هم، بوصفهم من «جماعتهم» كما صنفوا أنفسهم، قبل خيانة سائر أفراد هيئة التنسيق، وتلبية رغبات خورشيدات الزمان.
لم تعد القصة قصة نقابات وروابط ولا قصة طوائف ومحاور، بل هي، بوضوح وجلاء، مسألة جدولين مختلفين للأعمال ومسألة مفهومين مختلفين للسياسة: هل الشأن العام والسياسة يدوران حول اختلاف الأعيان أو توافقهم وتصادم الحضارات والديانات أو تعايشها والمتاجرة بالقلق والمراهنة على تقلبات الإقليم ومآسيه؟ أو يدوران حول تحدي إرساء دولة وحقوق ومواطنة؟
خسرنا منعطفات عديدة وفوتنا فرصاً ثمينة ودفعنا أثمانا باهظة. صحيفة «الأخبار» كانت أمس ملأى بالأخبار المفيدة2، إنما على كل واحد أن يتعظ.
1) عن أسامة مقدسي: «ثقافة الطائفية»، ص 113 (باللغة الإنكليزية).
2) إلى جانب مقال بليغ لجان عزيز.